في عهد الإخوان، جمعني لقاء بأحد قياداتهم وكان وقتها نقيباً للصيادلة بإحدى المحافظات المتاخمة للعاصمة وسألته عن أسباب العُدوان على الإعلام والخلاف مع القضاء والشرطة والجيش من قبل الجماعة ومؤسسة الرئاسة ولماذا أصبحت الخلافات أكبر من أن تُحل، وكان رده مفاجئاً لي حيث أخبرني أنه ضمن مجموعة "البلتاجي" وأنهم يعملون خلال "مبادرات فردية" على حل تلك الخلافات، لكن "مجموعة الشاطر" تهدم ما يقومون به من محاولات سعياً منهم لتقليص دور مجموعة "البلتاجي".
الصورة كانت واضحة لي تماماً مثلما أخبرت القيادي الإخواني أن مصر بها رئيس لا يحكم، وهناك مجموعتان تتعاركان ولا تتكاملان للاستحواذ على مقاليد إدارة مصر، وكان ردي بـ"مصر لا تستحق ذلك" كفيلاً بأن يدير محدثي ظهره ويتركني بعدما اكتشف أن ما يقوله هو العبث بعينه دون أن يقصد.
طرحت قبل عام مضى سؤالًا عن من يدير مصر ويتحكم في قراراتها وسياساتها الداخلية والخارجية، ولماذا لا يوجد مطبخ رئاسي يساعد الرئيس ويقدم له المشورة في كل الأُمور وجاءتني ردود عدة، أكثرها وضوحاً أن الرئيس السيسي كان قد طلب مهلة سنتين لاختيار مستشاريه وأعتقد أن المهلة المذكورة قد مرت دون أن نعلم للرئيس مستشاراً يمكن إلقاء اللوم عليه في عدم تقديم النصح إلى الرئيس للخروج بالبلاد من حالة انعدام الرؤية وعدم شفافية السياسة المتبعة في إدارة البلاد. وتولد لدينا يقين بأن ما يقال عبر قنوات النظام من أننا نسير نحو استحقاقات التحول الديمقراطي مجرد شعارات زائفة مثلها مثل شعارات كل الأنظمة السابقة. وربما لكوني أحد المتفائلين أجد أن الطريق دائماً ممهد لتحقيق الأحلام والتحولات الإيجابية إذا توافرت لدى أصحاب القوة والنفوذ الرغبة والإرادة.
بعد 30 يونيو وبعد التخلص من رئيس لا يحكم والمجموعات المتناحرة على إدارة البلاد بالتنافس والصراع، اعتقدنا أننا سنعيد إدارة الدفة في الاتجاه الصحيح وإعادة حركة التحول الديموقراطي إلى مسارها الذي قامت من أجله ثورة 25 يناير، وطالبنا أن يتم إعمال القانون والدستور وأن تُدار البلاد بشفافية وأن يأخذ الشباب حقه في المشاركة في إدارة البلاد.
طالبنا بالتعددية الحزبية .. بوقف التغول الأمني .. بعودة كل مؤسسة إلى دورها الطبيعي دون زيادة أو نقصان .. وطالبنا بحقنا في بلد قوية تنعم لأول مرة من عقود طويلة بالحرية.
الآن وبعد ما يقارب الأربع سنوات نجد أنفسنا في المربع رقم صفر.. الشباب عاد للشعور باليأس من تحسن أحواله فملأ المقاهي بدخان الشيشة ثم انطلق إلى أصحاب اللحى والجلابيب القصيرة ليشاهد معهم الطريق إلى الجنة والبعد عن عذاب النار ويأخذ صكوك الغفران ويحجز فدادين النعيم في جنة الخلد. ووضع أفكاره وأحلامه على أرفف النسيان رغم ما قد تحمله عقولهم من أفكار خلاقة قد تسهم في إحداث تحول نوعي إيجابي للبلاد تستحق الاهتمام.
الآن وبعد تلك السنوات، نرى سيناريو وأد كل المكتسبات التي "ظننا" أننا قد كسبناها عقب ثورة يناير وأنها صارت سرابًا، وكأن مخططاً محكماً يتم تنفيذه بدقة لعقاب الشعب على الثورة ودفعه للإقرار بأنها سبب كل النكسات التي يعانيها الآن.
القراءة المتأنية لوجوه المواطنين وتفسيراتهم لما آل إليه حال البلاد تكشف عن تعدد الانطباعات لدى الشارع؛ كل مواطن يُفسر المعطيات ويخرج بالنتائج التي تتوافق مع ميوله وثقافته .. البعض يعتقد أن هناك من يعمل ضد الرئيس نفسه وهؤلاء هم الذين ما زالوا على عهدهم القديم مع رئيس الجمهورية .. آخرون يرون أن الرئيس بخلفيته العسكرية لا يرى الأمور إلا من جانب واحد فقط ولا يقبل أن يكون هناك وجهان لأي أمر .. وهناك من يرى أن الرئيس وحاشيته المقربة تعلموا الدرس وقرروا الخلاص من التعددية الفكرية والحرية الإعلامية وأن يكون "الكل في واحد" لذلك عملوا على إحكام السيطرة على الإعلام بكل مؤسساته.
ولأنني مثل كثيرين من الممكن أن تكون قراءتي للمعطيات الظاهرية قد تصل لاستنتاجات جديدة، فلا مجال هنا إلا للحديث عن ضرورة تصحيح المسار والعودة لتحقيق الأحلام التي من أجلها قامت ثورة يناير والتي كانت سبباً رئيسياً للخروج في وجه الإخوان وأتباعهم .. وأرى أن الفرصة ما زالت قائمة لو كانت هناك إرادة سياسية واستعداد ورغبة من جانب الرئيس وحاشيته.
وتصحيح المسار يحتاج إلى العديد من الإجراءات أولها سماع الشباب "الغاضب" ومناقشة أفكارهم واحتوائهم وإقحامهم في الحياة السياسية ليكونوا نواة أحزاب "حقيقية" من أجل التحول الديمقراطي الليبرالي المنشود في مصر المستقبل .. من أجل تقديم نخب "حقيقية" للشارع المصري دون تدخل من الأمن للحيلولة دون تنامي دور الأحزاب إذا وجدت طريقها إلى الناس، ولنا في أحزاب العربي الناصري والأحرار والغد والمصريين الأحرار والدستور عبرة ونموذج واضح للتدخل الأمني من أجل إحباط تجارب تلك الأحزاب.
تصحيح المسار يحتاج لرفع الدولة يدها عن المفكرين وإطلاق عقولهم للتفاعل مع الشارع حتى نرى الفلاح والميكانيكي والبائع المثقفين مثلما كان قبل ثورة يوليو المجيدة، حيث كان الفكر يواجه بالفكر المضاد له ووعي الشارع هو الحكم وليس توجيه الآلة الإعلامية.
تصحيح المسار يحتاج لإعادة تنظيم الإعلام المصري بعدما انصرف البعض إلى المنصات الاعلامية المعادية للدولة لعلهم يجدون مبتغاهم هناك ولعل في دراسات قياسات الرأي العام المصري ونسب مشاهدته لتلك القنوات جرس إنذار يجب التعاطي معه و ليس إهماله .. يجب وقف مساعي السيطرة الكاملة على الإعلام في مصر، فالناس ما عادت تثق في صوت الحكومات ولا تستمع إلا للنغمة المخالفة .. إطلاق حرية الإعلام ربما مع الاحتفاظ بمنصة تتحدث بعقلانية باسم الدولة قد يكون بداية جيدة لإعادة تنظيم خريطة الإعلام المصري.
تصحيح المسار يحتاج لوقف دعوات تعديل الدستور الذي توافق عليه المجتمع المصري، فأغلب الظن أن الشارع لن يتقبل زيادة الفترات أو المدد الرئاسية فهذا الحق كان أحد أحلام المصريين التي لن يتنازلوا عنها تحت أي ضغط، بل إن محاولة تغيير هذا الاستحقاق ستتم مقاومتها محلياً وربما دولياً.
هذا التصحيح يقتضي بالضرورة القضاء على الفساد السياسي والاقتصادي التي عانت وتعاني منه مصر .. فأحد أسباب قيام الثورة المصرية هو غياب العدالة الاجتماعية عن توجهات دولة مبارك وتغول السياسيين الموالين للحاكم وإنشاء طبقة سياسية تحمل طابع المعارضة الظاهرية، لكنها تعمل لصالح الأجهزة الحكومية .. أحد أسباب قيام ثورتنا هو غياب الحوار المجتمعي مثلما يحدث الآن فأصبحت هناك فجوة وجفوة بين من يحكمون ومن سعوا لإحداث التغيير.
تصحيح المسار يحتاج لقراءة تحليلية لأفكار الشعب على منصات التواصل الاجتماعي وليس لملاحقة من يحملون أفكاراً مناهضة للسياسات الحاكمة .. كما قلنا إن أفضل طريقة لوأد فكرة تقديم فكرة منطقية مضادة وليس ملاحقة صاحب الفكرة وإلا سنجد في كل منزل داعشي وإرهابي مستعد لحمل ما يقوى على حمله في مواجهه الدولة .. إذن نحن في حاجة لتحليل الأفكار والبحث في منطقيتها ومدى نفعها وضررها للمجتمع والتعاطي معها والتفاعل بالنقاش هنا يتكون مجتمع ليبرالي متحاور يعلم أن هناك آراء متضادة كلها أقرب للحقيقة حتى تغلب الفكرة الأصح على العقل الجمعي للمجتمع.
الأمر يحتاج أيضاً لمتابعة أفكار رواد المقاهي وما يتم تداوله في المواصلات العامة بالإضافة إلى وسائل التواصل الاجتماعي .. المتابعة هنا تعني القراءة المتأنية لأحلام الشارع ومحاولة التعاطي معها وتحقيقها كلما أمكن.
وهنا نصل إلى ضرورة إيجاد علاقة مرنة بها ندية غير مضرة بطرفي العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني الذي فقد دوره منذ بدء عمله في مصر لنفس الأسباب التي جعلت من الأحزاب المصرية كيانات كرتونية حتى إذا ما حدث وخرج أحدهم عن المسار تم إبعاده عن البلاد.. يجب أن نصل لعلاقة صحية بين الطرفين من أجل إحداث توازن، وأن تجد الحكومة كيانات حقيقية تحاسبها إذا أخفقت وتستطيع أن يكون لها تواجداً حقيقيا في الشارع والبرلمان. وتكون تلك الكيانات الرقيب على أداء الدولة وجهازها الإداري من أجل مواجهة الفساد الإداري والقضاء على مصطلح "الدولة العميقة".
بل إنها ستكون ضمانة بناء جيل يؤمن بالديموقراطية .. جيل يحترم القانون حتى إن لم يكن القائم على تنفيذه موجوداً .. جيل لا يتعامل مع وظيفته باعتبارها ملكية خاصة يمارس منها سلطته .. جيل مدني ليبرالي متقبل للآخر. فلن ينجح التحول الديمقراطي في مصر في ظل وجود مواطن يخالف القانون ويقاومه ولا يحترم أي قيم أو أعراف.
وهنا يأتي دور القوة الناعمة ومصر بها ما يقارب الـ6000 مركز شباب وناد رياضي، وأكثر من 600 قصر ثقافة بالإضافة إلى ما يقارب الـ50000 جمعية أهلية بخلاف كيانات أُخرى تابعة للدولة وتحتك احتكاكاً مباشراً بالجماهير كانت فيما مضي ذات تأثير ثقافي كبير.
على النظام الحاكم أن يتحسس خطواته، فمصر ليست لديها القدرة على تحمل هزات أو انتكاسات جديدة بل عليه أن يكون واضحاً كاشفاً لمنهجه وسياساته للشارع لإحداث حوار مجتمعي خاصة وأنه ما زالت لديه فرصاً عظيمة لجذب من انفضوا عنه إن قضي على أسباب النفور .. عليه أن يعي أن ما حدث مع المصريين منذ عقد ونصف العقد أدى لحدوث تغييرات ثقافية ومجتمعية جددت لديه روح التحدي ورفضه للإذعان أو قبول ما يرفضه عقله .. عليه أن يعي أن المجتمع المصري لم يعد بمعزل عن المجتمع العالمي وأنه متواصل ومطلع على ثقافات أخرى ولديه طموحات وأحلام لن يرضى عنها بديلاً. عليه أن يعمل جاهداً من أجل تحول ديموقراطي حقيقي خلال آليات لطالما نادينا بها عقب ثورة يناير 2011 مثل كشف الحقائق باستمرار من أجل حوار مجتمعي بناء ومشاركة شعبية حقيقية في اتخاذ القرار، وتطهير المؤسسات الحكومية والسيادية، ووضع حد للتطاحن بين فئات المجتمع، وإطلاق الحريات وكبح جماح التغول الأمنين ووضع حد لتمدد الانتهازيين الذين يعجلون من حالة النفور المجتمعي من السياسيين والنظام الحاكم.
إن من مصلحة نظام الرئيس السيسي -إذا أراد أن يكتب صفحة جديدة في تاريخ التحول الديموقراطي المصري- أن يساعد على إنشاء أحزاب سياسية لديها برامج واقعية وواضحة تحمل بين طياتها آليات تحقيق أحلام المجتمع، ولديها آليات تساعدها على الانتشار التنظيمي داخل المجتمع المصري بالكفور والنجوع و القرى والحارات والمدن والمراكز وأن تنتشر أفكار تلك الأحزاب خلال الاحتكاك المباشر وليس خلال شاشات الفضائيات والصحف التابعة لها.
ولا بد أن يؤسس النظام الحاكم لبيئة تسمح بحرية الحركة لتلك الأحزاب مع الحفاظ على الحياد في مواجهة المواطنين والقوى السياسية والحزبية وعدم الانحياز لطرف على حساب الآخر، وأن ينهض من خلال مؤسساته المعنية بالتنشئة بدوره الوطني من خلال التعليم والثقافة والإعلام ببرامج تُكون الوعي السياسي للمواطن ليستعيد ثقته بفكرة العمل السياسي وثقافة الاختيار الصحيح، ويدرك أن بإمكانه أن يشارك في بناء وطنه خلال طرح الحقائق والمعلومات على الموطن كي تصنع وعيه دون تزييف للوعي خلال التعبئة والتحريض على هذا الطرف أو ذلك، وفقاً لأجندات قد لا تتحرى الصالح الوطني.