بأى حساب فإن المعارك التى تخاصم حقائق زمنها تستنزف طاقة التحمل العام وتسحب على المفتوح من أى أمل فى المستقبل.
فى أسبوع واحد تحت قبة البرلمان تتابعت مشاهد مزعجة لذلك النوع من المعارك، مرة ضد الصحافة بدعوى أنها تجاوزت فى نقدها، ومرة ثانية بفصل نائب باتهامات لا تستند على قواعد قانونية صحيحة تبيح مثل هذا الإجراء، ومرة ثالثة باقتراح تعديل دستورى يسمح بمد فترة ولاية الرئيس إلى ست سنوات بدلا من أربع.
كأى معارك من مثل هذا النوع فإنها تلقى بظلال كثيفة على فرص التوافق الوطنى الضرورى، الذى تحتاج إليه مصر لتجاوز أزماتها الصعبة.
عندما تغيب القواعد تتقوض أى هيبة وشرعية، ولا قواعد ممكنة خارج الدستور والزمن الذى نحياه.
لا يعقل أن يدخل المجلس النيابى بمنصته وغالب عضويته فى حملة ضارية على جريدة «الأهرام» القومية المملوكة للدولة، لمجرد أن بوابتها الإلكترونية تطرقت فى إحدى تغطياتها، كما غيرها، بشىء من النقد لبعض أعماله.
كما لا يعقل أن يدخل فى الوقت نفسه حملة ضارية أخرى على جريدة «المقال» المستقلة، التى نشرت مادة ساخرة على صفحتها الأولى عن جوائز تخيلية للأوسكار منحت البرلمان جائزة «أفضل فيلم كارتون».
فى الحالة الأولى، حق الرد مكفول وفق القانون والأعراف المهنية.
أما التشهير بالصحيفة العريقة بعبارات لا تصح ولا تليق فهذا تفلت أساء إلى سمعة البرلمان قبل غيره، كما أنه استدعى بالتضامن غضبا صحفيا واسعا ومنذرا بصدام مفتوح بين البرلمان والصحافة.
وفى الحالة الثانية، فإن المادة المنشورة نوع من النقد تعرفه بعض التجارب الصحفية فى العالم مثل «لوكانار أونشينيه» الفرنسية الساخرة.
لو أن البرلمان يثق فى نفسه لتجاوز ذلك النقد الكاريكاتيرى دون أن يستوقفه، أو يشرع فى اتخاذ إجراءات قانونية بحق الصحيفة.
المشكلة هنا بالضبط.
عندما تخفق فى مهامك وفى اكتساب ثقة الرأى العام فإنك تبحث عن ذريعة ما تبرر إخفاقك، أو معركة طواحين هواء ضد عدو افتراضى، فكل نقد مشبوه وكل اعتراض مؤامرة.
هناك من يعتقد أن الصحافة «الحائط المائل» فى هذا البلد، على الرغم من أنها تكسب معاركها فى النهاية.
على الرغم من الاعتذار الضمنى لـ«الأهرام» فإن التزامن يؤشر على ضيق بالغ بحق النقد والاختلاف، وبحرية الصحافة كلها، كما ينبئ عن مواجهات متوقعة عند نظر مشروع قانون الصحافة والإعلام الذى ينص على حقوق وحريات واسعة التزاما بالنصوص الدستورية.
فى بلد مثل مصر ليس هناك جديد فى الصدام بين البرلمان والصحافة، فقد دأبت البرلمانات المتعاقبة على تضييق الحريات الصحفية وتبنى عقوبة حبس الصحفيين فى جرائم النشر.
الجديد والخطير ــ هذه المرة ــ التوغل فى شتم الصحافة دون سقف أو حد، وكما لم يحدث فى التاريخ المصرى الحديث كله.
مثل هذا التوغل يزكى «ثقافة العنف» فى بنية المجتمع فكل شىء يؤخذ عنوة بغض النظر عن الحق، وكل معنى يستباح بغض النظر عن القانون.
بالتوقيت فإن الحرب مع الإرهاب دخلت طورا خطيرا بنزوح أغلب العائلات القبطية من شمال سيناء إلى الداخل المصرى بعد عمليات تقتيل بشعة قوضت شعورهم بالأمان.
ذلك التطور يتطلب تماسكا اجتماعيا واسعا لا التحرش بحرية الصحافة.
إذا غيبت تلك الحرية فالمجتمع كله مكشوف.
الحرية مسألة أساسية بذات قدر المهنية والموضوعية فى العمل الصحفى والإعلامى.
نحن فى زمن السماوات المفتوحة وثورة الاتصالات ودعوات التحول إلى دولة ديمقراطية حديثة، أو أن تكون هناك دولة قانون.
ومخاصمة حقائق الزمن نتائجها معروفة.
ليس مهما أن تتفق أو تختلف مع نائب أو أى شخص عام، بقدر ما هو مهم أن تكون القواعد واضحة ومصدقة.
بغض النظر عن أى ملابسات شابت إجراءات فصل النائب «محمد أنور السادات» فإنه لا يمكن استبعاد أن يكون قد لقى ذلك المصير عقابا على مجمل أعماله ومواقفه، أخطرها ما كشفه عن شراء ثلاث سيارات مصفحة لرئيس المجلس ووكيليه بـ(١٨) مليون جنيه، وأوجه أخرى للخلل الفادح فى التصرف بالمال العام، بينما البلد يعانى من أزمات اقتصادية ودعوات التقشف تملء الأفق السياسى دون أن يكون الأمر ملموسا لا فى السلطة التنفيذية ولا التشريعية.
نزعات الانتقام هروب من الأزمة بدلا من الاعتراف بالأخطاء التى ارتكبت وإنكارها بإحالة مسئوليتها إلى أعداء متخيلين.
لا أحد فوق الحساب، لكن عندما تختل المعايير وتتحكم الأهواء فى التوجهات، فإن التداعيات تهدد ثقة المجتمع فى مستقبله.
أسوأ ما قد يحدث من تداعيات شيوع الخوف داخل البرلمان نفسه عن ممارسة الحق الدستورى فى مساءلة السلطة التنفيذية، أو الاقتراب من أى ملف على شيء من الأهمية أو الحساسية، بما يشل أى اضطلاع بالحد الأدنى من المسئوليات الدستورية فى العمل البرلمانى خشية لقاء ذات المصير.
فى مخاصمة البرلمان لزمنه تقدم أحد النواب لتعديل النص الدستورى الذى يحدد مدة الفترة الرئاسية.
لم يرتفع صوت تحت القبة يعترض على مثل هذا الاقتراح حتى سحبه صاحبه بنصيحة من بعض أجهزة الدولة، فالاقتراح يسىء إلى الرئيس ــ كما صرح بنفسه على إحدى الفضائيات.
المقترح بذاته مشروع أزمة شرعية، فضلا عن أنه يخاصم الشرعية الدستورية وأن تلتحق مصر بزمنها فى طلب التحول إلى مجتمع ديمقراطى حر.
على الرغم من تعطيل العمل بأغلب نصوص الدستور فإنه يظل قيدا معنويا على أى تغول وصمام أمان قد يحتاج إليه البلد فى أى لحظة.
تفكيك صمامات الأمان مقامرة عواقبها وخيمة.
القضية ليست فى نقد البرلمان، فهذا واجب مهنى ووطنى معا ولو فى النقد شطط، فالشطط من طبيعة الحرية مادام لم يخرق قانونا أو يتجاوز حرمة، بقدر ما هى فى عجز البرلمان نفسه على إقناع الرأى العام بأن له دورا، وأن هذا الدور يتجاوب مع قضاياه واحتياجاته وأولوياته.
هناك قضايا حقيقية، بعضها وجودية، مثل أزمة سد النهضة التى قد تداهم نتائجها هذا العام (٢٠١٧) مصر بسيناريوهات تعرضها لعطش مائى، وأزمة الحرب مع الإرهاب التى تنال من فرص التعافى الاقتصادى وعودة السياحة والقدرة على جذب الاستثمارات الأجنبية، وأزمة الغذاء وارتفاع الأسعار وغياب عدالة توزيع الأعباء للإصلاح الاقتصادى التى تتحملها الطبقة الوسطى والفئات الأكثر فقرا وحدها.
تلك كلها معارك حقيقية لم يرتفع فيها صوت تحت القبة.
وتلك كلها ليست من المعارك التى تخاصم زمنها بعد ثورتين طلبتا دولة حرة وعادلة.