ما هو غاطس من أزمات فى الإعلام المصرى أخطر مما هو باد وظاهر ومقلق.
بالأرقام الرسمية فإن شركة «نايل سات» خسرت (٦.٥) مليون دولار جراء تعويم الجنيه.
ذلك مجرد خط على لوحة الأزمة والقمر الصناعى المصرى مرشح لتراجع أفدح فى دوره.
التساؤلات القلقة بدأت تطرح نفسها فى الدوائر المعنية ــ بعيدا عن الرأى العام ــ حول مستقبل المنظومة الإعلامية كلها شاملة الدراما التلفزيونية وبرامج المنوعات، بالإضافة إلى التغطيات الإخبارية والبرامج السياسية التى تدهورت بفداحة.
أسهل إجابة نسبة الأمر كله إلى «نظريات المؤامرة» دون أن تنظر بالجدية اللازمة فى مدى قدرة المنتج الإعلامى على المنافسة وأوجه الخلل الفادحة التى تنال من صدقيته.
بالمعلومات الأساسية فإن شركة «bein sports»، التى تبث على الـ«نايل سات» بـ(١٧) قناة، تحولت إلى مجموعة تضم أقل باقة فيها أكثر من (٣٥) قناة ترفيهية ورياضية، قبل أن تقرر رسميا بث تلك الباقات جميعها على القمر القطرى «سهيل سات»، وإن المفاوضات بين الجانبين وصلت إلى طريق مسدود.
العقبة الأساسية التى تحول دون التوصل إلى أى اتفاق هى «نظام التشفير» داخل مصر الذى تملك البت فيه شركة «CNE» صاحبة الحق الحصرى، نظرا لأهمية بيانات المشاركين وإمكان التواصل معهم برسائل خاصة عبر أجهزة التشفير والاستقبال.
فى حالة استمرار الوضع الحالى فإنه اعتبارا من أول يوليو (٢٠١٧) سيتوقف بث الباقات الرياضية وغيرها لتلك المجموعة على القمر المصرى.
وهو ما قد يعنى حرمان أكبر كتلة سكانية فى العالم العربى من متابعة المسابقات القارية والدولية، وأهمها مباريات كرة القدم.
هذا مشروع أزمة خطيرة فى البيت العربى المتصدع قد تتصاعد وتيرتها إلى حدود غير محتملة.
وبالمعلومات الأساسية فإن هناك إدراكا أوليا لخطورة مثل هذا الاحتمال على مستقبل المنظومة الإعلامية المصرية، وأن دراسات فنية وقانونية تجرى بمشاركة خبراء على درجة عالية من الكفاءة لمواجهة تصاعد الأزمة المنتظرة.
وذلك كله طبيعى وضرورى لكنه فى حدوده الحالية غير كاف.
فإذا ما تم بصورة أو أخرى تجاوز الأزمة فنيا، أو قانونيا، أو بالتفاهم فى اللحظات الأخيرة، فإن ذلك لا يعنى تجاوزا آخر لما هو باد أو غاطس.
أسوأ قراءة ممكنة لأزمة الإعلام عزلها عما حولها.. فالإعلام مرآة مجتمعه وبقدر صحة البيئة العامة فإنه يتطور ويؤثر ويصحح مساره، ويؤدى واجباته الأساسية فى إخبار الرأى العام بجديد الحوادث والتطورات وتبادل الآراء فى شواغله، وهما مهمتان لا غنى عنهما لأى مجتمع خاصة فى أوقات الظروف الصعبة، كالتى تمر بها مصر الآن.
بكلام آخر فإن تحسين البيئة العامة نقطة البدء، التى لا نقطة بدء غيرها، لإعادة اعتبار الإعلام الذى تدهورت صورته على نحو غير مسبوق.
أعلى جبل الأزمة هناك مجموعة من التراجعات فى مستوى المهنية ودرجة الموضوعية ونسب المشاهدة ومدى القدرة على إلهام التماسك الوطنى بالحوار لا الإقصاء.
إعلام التعبئة والإقصاء لا يؤسس لتماسك تحتاجه مصر فى أزماتها الحالية، أكثر من أى وقت مضى، كما أن تجاوز الدستور والقانون والقيم الإنسانية العامة يفضى إلى سحب أى احترام عن المنظومة الإعلامية كلها.
الأخطر إطلاق رصاصة الرحمة على مبنى «ماسبيرو» العريق، وتسابق جهات فى الدولة لإنشاء فضائيات خاصة تكرس أغلب برامجها للترفيه دون أن تتوافر لتلك البرامج أى قدرة تنافسية مع برامج تتوافر لها إمكانيات هائلة تبث على فضائيات عربية.
ما الحكمة فى إنشاء تلك الفضائيات الخاصة؟
وما المعنى فى اغتيال «ماسبيرو» أو موته بالإهمال؟
الوجه المعلن لأزمة الإعلام ضعف قدرته التنافسية.
وبالانسحاب من القواعد الحديثة فى صناعة الإعلام فإنه داخل لا محالة إلى الحائط الأخير.
عندما تتدهور القوة التنافسية فإن كل شىء بعدها فى انكشاف كامل.
والوجه الغاطس تجريف القوة الناعمة نفسها والنيل من حيوية المجتمع فى لحظة الحاجة فيها ماسة لأوسع توافقات عامة.
بقدر صحة الإعلام وحيويته وتعبيره عن الحركة العامة فى المجتمع يرتفع منسوب القوة الناعمة.
وفى بلد مثل مصر فإن أعز ما تملكه هو قوتها الناعمة، ما تنتجه من إبداع فى الآداب والفنون والثقافة وما تلهمه من قيم تلتحق بعصرها.
ليس لديها شىء آخر على ذات القدر من الأهمية.
القوة الناعمة تنفذ إلى العقول والقلوب دون عضلات مفتولة، أو ادعاءات مرسلة عن الريادة عند غياب مقوماتها.
إذا ما قوضت المنظومة الإعلامية بصورة أخطر مما هى عليه الآن، فإن الضرر سوف يكون مروعا على ما تبقى لمصر من قوة ناعمة فى محيطها.
بصورة أو أخرى فإن الإعلام أحد قاطرات القوة الناعمة لأى بلد.
عندما تتوقف تلك القاطرة عن الوفاء بالحد الأدنى من واجباتها فإنها تعطل معها جانبا كبيرا من القوة الناعمة لمجتمعها، وينسحب من المشهد كبار المفكرين والمبدعين من جميع الأجيال التى أضفت على مصر فى جميع عصورها الحديثة مهابة التأثير العام وعمقه فى محيطه.
من أخطر النتائج المتوقعة مزيد من التراجع فى المنتج الفنى المصرى، من دراما تلفزيونية وشرائط سينمائية، أمام منافسة تتوافر لها قدرات مالية هائلة دون أن يتوافر فى المقابل مشروع ثقافى يزكى حرية الإبداع والتفكير ويوفر بيئة حاضنة لا طاردة ترفع من القدرة التنافسية، وربما تحسم كل منافسة، دون استعلاء أو ادعاء وكلام فى مطلق أرقام الميزانيات المخصصة دون اقتراب جدى من مستوى المحتوى نفسه.
من المتوقع أن تسعى المجموعات والأقمار المنافسة لمد دائرة حضورها الكروى إلى مساحات جديدة فى الإنتاج الدرامى، وهو الميدان الذى احتكره تقريبا المصريون لعقود طويلة.
ليس من حق أحد أن ينفى فكرة المنافسة والاحتكام إلى الجمهور العربى العريض فى قيمة ما يعرض، وهو نفس المنطق الذى نعترض به على احتكار بث المباريات الرياضية فى كرة القدم.
أرجو أن يكون واضحا أن أحدا لا يقنع وينافس إلا بقدر ما يتوافر له من أسس ومقومات لها صلة بقواعد الإعلام وحقائق العصر، والأوضاع الحالية لا تقنع ولا تنافس.
وأن يكون واضحا ــ ثانيا ــ أن الرأى العام العربى والمصرى بالخصوص هو طرف مباشر فى الأزمة التى تتهدد مستقبل الـ«نايل سات»، غير أنه يصعب تجاوز الموقف الصعب بمداخلات فنية على أهميتها أو قانونية على ضروراتها.
فإذا لم تتغير البيئة العامة ويفسح المجال للتنوع الطبيعى فى المجتمع وترسى القواعد القانونية الحديثة، فإن أحدا لا يستطيع أن يراهن على استعادة الإعلام المصرى لسمعته وهيبته.