إحساس غريب عدم الاتزان إحساس بأنك تترك كل شيء اعتدت عليه فلا الأرض مكانها ولا الحوائط المرتفعة ولا الأسقف المسطحة تظل كما هي. تنبعج الجدران متورمة وتهبط لك الأماكن العالية ولكن رغم الهبوط والتدني لا تلمسها ولا تدركها ولا تتركها أيضا، تكون في هذه الحالة على ثقة بأن شيئا ما سيتغير وأن بداخلك بئرا سحيقة تجذبك إلى الداخل وتتمحور حول ذاتك فقط فلا ترى أي فرد بجوارك تريد أن تنتهي هذه اللحظات فقط ولا أي شيء مهما كان قربه يستطيع أن يحيدك عن نفسك، بالرغم من علمك مسبقا أنها لحظات ولكنك لا تستطع الانتظار دون أن تنهمك في التفكير في الخلاص منها ورغم أنك متأكد من سلامة كل ما حولك إلا أنك تظل تطالعه بأعين متحدقة مرهقة .
تفيق من الدوار لتجد البعض حولك يسارعون في إنقاذك بالطرق الاعتيادية فأحدهم يحمل كوب ماء والآخر اجتهد في وضع قدمك أعلى من مستوى الرأس على أريكة مريحة.. تتمدد لا تعلم تحديدا ما أوصلك إلى هذا المكان، غالبا سيدة وجهها طيب وهادئ ستتولى فك ربطات الحجاب أو الايشاربات وستحتفظ بكل متعلقاتك الشخصية، جميعهم سيسألونك في أول طرفة عين (أنتي بقيتي كويسة؟؟) هذه أسئلة لا إجابات لها سوى إيماءات قليلة تشبه رد الفعل الطبيعي مثل إغماض العين حين يوقد الضوء فجأة. فلا المغشي عليه يعرف ولا السائل ينتوي الفهم ولكنها مشاعر آلية ولكن لا بأس بها فهي كافية لحل الأزمة سريعا وانصراف الجميع.
تظل المشاهد التي تراها أثناء فقدك للوعي عالقة بذهنك لوقت طويل فترى لحظة من الثورة وأنت تحمل علم مصر وتجد بجوارك جارا لك لا تعرف أنه عاد لأرض الوطن ترسل له ابتسامة كإشراقة الصبح الجميل كلها أمل، ثم يشتد بك الدوار فتتوه في أماكن مظلمة بعيدة وطرق سريعة تجرك إلى محاولة للهروب. صوت صفارات سيارات الإسعاف مزعج جدا لا يمكن احتماله. ولكنك لا تعرف هل أتت لك أم لإنقاذ آخر سقط برصاص من مصدر مجهول، تستسلم مرة ثانية لإغماض عينيك حين تسمع أحدهم يصرخ الشيخ عماد عفت، تراكم الصدمات يغلق عن عقلك الهواء.. تستلقي وأنت تعلم أن لا جدوى من مقاومة الدوار أو محاولة النهوض فكل أعضائك لا تستجيب لإشارات العقل، فيدركك مشهد آخر.. نجاحك وحولك كل المهنئين وترى نفسك ووجهك جميل مبتسم مبهج غالبا في هذه الحالة كنت محتشدا مع ملايين الأفراد في مكان ما واسع وصاخب وجميل في نفس الوقت وصوت أغنية شادية وهي تقول أصله ما عداش على مصر فتعود إليك الحياة وتنهمك في محاولات الإفاقة.
تفتح عينيك لتجد النور تمد يدك لتجد ألف يد تحاول أن تنهض بك، تقول لنفسك كل هؤلاء يريدون مساعدتي لابد أنني إنسان صالح أو أنني مصدر ثقة، في حالات الدوار الشديد لا تفقد الاتزان فقط ولكن تفقد أيضا إحساسك من أنت فتجد أحد المسعفين يسألك أسمك إيه؟ بيتك قريب من هنا؟ فلا تجد إجابة لأن عقلك غير جاهز لهذه الأسئلة وهم يصرون على تنشيط ذهنك لاستعادة التركيز.
تظل هكذا مشاهد تعيدك للحياة ومشاهد أخرى تتمنى أن تنساها ولا تعرف لذلك طريق، تجربة فقد الوعي تجربة فريدة حيث تقص عليك ما سيحدث في وقت آخر في عالم آخر لن تستعد فيه الوعي مرة ثانية ستكون مرة واحدة فقط.
بوجه عام الدوار يمنحك فرصة أن تجرب الذهاب إلى العالم النهائي ويوفر لك العودة فهو تجربة فريدة حقا، فكل الذين رحلوا لم يعرفوا ماذا حدث بعد أن غابوا عن الحياة لكن الوضع هنا مختلف فأنت إن أردت ستعرف فماذا حدث بالتفصيل وإن كنت أنا شخصيا لن أكون سعيدة بمعرفة ما حدث وأنا مغشي علي وكنت سعيدة بهذه المشاهد التي سأظل أتذكرها وأنا في قمة الوعي والتركيز أو هكذا أظن لأستريح.