تحليلات وآراء

تبدو الولايات المتحدة الأمريكية كمن ينظر فى المرآة فلا يعرف لنفسه ملامح ينتسب إليها. الاضطراب صريح فى تعريف المجتمع لنفسه ومدى انتسابه للقيم الإنسانية الحديثة.

لأول مرة فى التاريخ الأمريكى تخرج تظاهرات بمئات الألوف فى مدن كبرى ترفض الاعتراف بشرعية رئيس منتخب، تنزع عنه أية أحقية فى تمثيلها، وتتحسب من عواقب سياساته على السلم الأهلى وحقوق المرأة والأقليات والحريات العامة وحقوق الإنسان.

وقد أزكت الإجراءات التى أقدم عليها «ترامب» فى أيامه الأولى داخل البيت الأبيض هذه المخاوف على نحو يدفع للاعتقاد بأن أمريكا توشك أن تدخل مرحلة اضطراب داخلى بالنظر إلى طبيعتها كـ«مجتمع مهاجرين».

تصاعد النزاعات العرقية مرجح، وقد تأخذ صورا عنيفة.

وتصاعد الاحتقانات الدينية مرجح، وقد توفر بيئة عنف أخطر وأشد.

وتصاعد الأزمات بين البيت الأبيض والنخب الأمريكية فى«الميديا» والمجتمع الأكاديمى و«هوليوود» مؤكد، بما ينزع أية هيبة أو أى ثقل أدبى للبيت الأبيض.

بصورة أو أخرى فإن الاضطرابات الداخلية تؤشر على أوضاع يصعب تجاوزها بدون كلفة كبيرة.

وقد كان الأمر التنفيذى بمنع مواطنى سبع دول إسلامية من دخول الأراضى الأمريكية دليلا قاطعا أن «الرئيس ترامب» سوف ينفذ كل ما تعهد به «المرشح ترامب».

كما كان دليلا قاطعا آخر على حجم الانقسام فى المجتمع الأمريكى والفوضى التى يمكن أن تضرب بنية الإدارة الجديدة.

إقالة وزيرة العدل بالوكالة، التى لم تؤيد ما اتخذه من إجراءات، إشارة أولى إلى النهج الذى سوف يتبعه، فلا رأى غير رأيه ولا قواعد فى صناعة القرار، كأنه يدير إحدى شركاته العقارية لا دولة كبرى فى حجم الولايات المتحدة.

وذلك يومئ لصدام محتمل مع حزبه الجمهورى، الذى نجح على غير إرادة مؤسسته، ينعكس بالضرورة على أغلبية الكونجرس، إذ لا يمكن استبعاد تأثير السخط العام على فرص التجديد لنوابه عند أول انتخابات نصفية مقبلة.

من المنتظر أن يدخل فى حرب معلنة للسيطرة على المحكمة العليا ومن غير المستبعد أن يدخل فى صراعات مع أجهزته الاستخباراتية طلبا للولاء.

فضلا عن ذلك كله فإن سياساته تنزع أية أقنعة أخلاقية، حرص عليها أسلافه من الرؤساء الأمريكيين، فهو بصدد إعادة اعتماد أساليب استجواب المشتبه فيهم بالإرهاب، التى استبعدت بأثر ما تكشف من وحشية لاستنطاق الاعترافات، وإعادة فتح سجون لوكالة الاستخبارات الأمريكية فى الخارج، كما كان يحدث من قبل وتورطت بعض الدول العربية فى استضافة حفلات تعذيب على أراضيها.

كل شىء الآن صريح بلا مساحيق تجميل.

مع ذلك كله فإن أسوأ اقتراب ممكن من ظاهرة «ترامب» النظر إليها كما لو كان حادث سير مروع وقع فجأة.

هو تعبير صريح عن نوع من الثقافة لها جذور وتحكمها اعتقادات فى سيادة الرجل الأبيض على ما عداه من أعراق وأقليات.

بخطابه الشعبوى كسب الانتخابات الأمريكية، غير أن مقتله فى نفس الخطاب.

فالقوى التى تناهضه أكثر قوة ونفوذا وتأثيرا بينما قاعدته من «البيض المحرومين» مرشحة للتآكل عندما تخيب رهاناتها على تحسن أحوالها المعيشية وتبدأ فى دفع فواتير حماقاته.

بتعبير باحث أمريكى شاب فى مجلة «ذى أتلانتيك» قبل انتخاب «ترامب»: «أخشى ألا يحترمنا أحد فى العالم إذا ما أصبح رئيسا وألا نحترم أنفسنا».

شىء من ذلك يحدث الآن.

كوابيس «ترامب» صداع مزمن فى رأس العالم كما رأس الولايات المتحدة نفسها.

هناك ــ أولا ــ تقلص غير مسبوق فى مستويات الهيبة الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية.

وللهيبة اعتبارات تفوق قوة السلاح فى حسابات المصالح والنفوذ.

إذا لم تستند الرئاسات على ثقة مجتمعاتها فإن أحدا فى العالم لن يحترمها.

شىء من ذلك يحدث الآن.

وهناك ــ ثانيا ــ بوادر أزمة مستحكمة، غير مسبوقة فى طبيعتها، بين الولايات المتحدة وحلفائها التاريخيين فى أوروبا وآسيا والإقليم.

لا يخفى القادة الأوروبيون خشيتهم من تبعات سياساته على مستقبل الاتحاد الذى يجمع دولهم ومصير حلف «الناتو» ذراعهم العسكرية الذى تقوده الولايات المتحدة.

ولا تخفى دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية خشيتها من طبيعة نظرته إلى العلاقات الدولية وحركة المصالح والقوة.

ولا يعرف الإقليم كله، حتى الذين يراهنون عليه، كيف سوف يتصرف فى الملفات الملتهبة، أو متى ينقلب على تحالفاته.

العالم كله يترقب ما قد يفضى إليه خطابه الشعبوى من نذر ومخاطر تهدد الأمن والسلم الدوليين.

فى أوروبا بالخصوص تتبدى خشية حقيقية من أن تخسر القارة قيم الحداثة والتمدن التى اكتسبتها بتضحيات هائلة.

ليست مصادفة أن يلتقى يسار الوسط مع اليمين التقليدى فى إبداء درجة عالية من الانزعاج من نظرته إلى المسلمين وقضية المهاجرين، حتى رئيسة الوزراء البريطانية «تريزا ماى» التى صعدت إلى موقعها أثر الخروج من الاتحاد الأوروبى، قالت إنها لا تتفق مع نهجه، بينما أعلن قادة أوروبيون آخرون أن تلك الإجراءات تشجع الإرهاب وتدفع العالم إلى صدامات دينية لا نهاية لها.

وهناك ــ ثالثا ــ بوادر أزمة مستحكمة أخرى مع الجار المكسيكى، وفى الصدام احتمالات تفاقم الأزمات الداخلية بالولايات المتحدة نفسها بالنظر إلى قوة الأقلية المتحدثة بالإسبانية.

بالتداعيات فإن هذه الأزمة سوف تتمدد إلى القارة اللاتينية كلها التى كان ينظر إليها تقليديا باعتبارها الفناء الخلفى للبيت الأبيض.

كما أن فكرة بناء جدار عازل على الحدود مع المكسيك تدفع الأخيرة تكاليفه، فيه تعال وتعسف واستضعاف له أثمانه الفادحة على أمن الولايات المتحدة ومصالحها.

وهناك ــ رابعا ــ حروب اقتصادية تنسخ اتفاقيات موقعة ورفع رسوم جمركية ودخول فى مواجهات مع الصين غير محسوبة نتائجها على الاقتصاد الأمريكى نفسه.

ذلك مخالفة كاملة لقواعد اقتصاد العولمة الذى تبنته ودعت إليه وفرضته على العالم الولايات المتحدة قبل غيرها، وهو ما يزكى سيناريوهات الفوضى الاقتصادية.

وهناك ــ خامسا ــ غموض فى طبيعة العلاقات التى يمكن أن تجمعه مع الرئيس الروسى «فلاديمير بوتين».

فلا العقوبات الاقتصادية رفعت ولا التفاهمات الاستراتيجية ممكنة بالصورة التى تحدث عنها بأوقات سابقة.

إلى حد كبير يصعب تجاوز المؤسسات الأمريكية فى هذه المسألة التى تتعلق بالمصالح والحسابات الكبرى مهما شطحت تصريحاته وإجراءاته.

وهناك ــ أخيرا ــ قضايا الإقليم الملتهب بالنيران، فهو يدعو إلى مناطق آمنة فى سوريا دون أن يكون واضحا مقصده والكلام كله غير متماسك وبلا أفق استراتيجى مفهوم.

وهو يتبنى نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وتلك نقطة تفجير لا يقدر أحد على تحمل نتائجها، لكن الكوابيس ماثلة.

السؤال الحقيقى الآن: أمريكا إلى أين؟.. وإلى أى حد تتحمل والعالم كوابيس «ترامب»؟

نقلا عن الشروق.

تعليقات الفيسبوك

التصميم والتطوير بواسطة WhaleSys