ماذا أحكي لأبنائي عن الثورة المصرية بعد خمس سنوات قادمة؟ سيزيد وعيهم عن مرحلة الطفولة وستظل ذكريات الميدان محفورة في ذاكرتهم حيث ذهبوا إليه وهم ما بين أربعة وستة أعوام.
كل الصور التي نحتفظ بها هي لأفراد لانعرفهم ولكنهم يشبهوننا، نفس الابتسامة نفس الحلم نفس المطالب.
سأحكي لأبنائي أننا رفضنا القمع ولم يرهبنا حبيب العادلي ومساعدوه ومديرو الأمن ولم نتراجع حين جد الجد في الميدان.
لم يكن النظام الأمني القمعي أقل مما يروج له من حيث العدد والعدة ولكن لم تعرف أي أنظمة فاشية الصمود في وجه الشعوب.
إن قضية الثورة المصرية الحقيقية كانت في كرامة الإنسان، كانت حين رصدت الكاميرات أن المصريين يأكلون من القمامة، وأن هذا الشعب العظيم تنشر عنه تقارير في العالم عن سقوط ضحايا في طابور الخبز، وأن الفقر ساد حتى أن المواطنين يأكلون أطعمة مسرطنة وهم يعلمون، وأن مستشفيات علاج الأورام لم تعد كافية لأعداد المرضى، وأن قوائم الانتظار كانت عارا على الدولة التي بها أكثر من عشرين كلية تعمل في مجال الطب والصيدلة، ومنها أقدم الكليات في الشرق الأوسط.
سأحكي لأبنائي أيضا عن فساد النخبة الحاكمة والتي كانت تعبث بمقدرات الدولة كيفما تشاء فتسحق كل بارقة أمل وتسرق كل تاريخ يمس كرامة الوطن، سأشرح لهم أن عمليات الخصخصة أضاعت مؤسسات يستحيل للدولة إعادة بنائها أو استردادها، وأن فساد السلطة واكبه ودعمه فساد رجال الأعمال، هؤلاء المقربون من جميع الأنظمة بكافة أشكالها واختلافاتها.
سأحكي لأبنائي عن سلمية الثورة المصرية، التي عبرت حدود العالم لتنقل رسالة أن الوطن يسع الجميع وأن لا أعداء إذا ما اتفقنا على مبادىء الثورة.
ولن أنسى أن أعلمهم أن هذا هراء لأن السلمية المطلقة أطلت علينا سريعا بهذه الوجوه القبيحة والتي نهشت في مصر وشوهت ومزقت مبادىء الثورة والثوار.
سأعلمهم أن الثوار الحقيقيين لا يخافون من السجون ولا ترهبهم متاريس الداخلية ولا الضباط الملثمين المستترين في مدرعات مغطاة بشبك حديدي.
احتفظ لابني بالعديد من الصور التي توثق مقتلة يوم 28 يناير، يوم العزة والكرامة، يوم فقدت فيه مصر شبابا يحلمون حلم الحرية، يؤمنون بوطن يعرف فيه المواطن حقه ويسعى إليه بالقانون، شباب دهستهم مدرعات الشرطة بكل وحشية وهم يرددون عيش حرية عدالة إجتماعية.
احتفظ أيضا بصور من المستشفى الميداني وبصور من ميدان عبد المنعم رياض وقت هجوم المستأجرين من الداخلية للفتك بمن صمد واستمر في الميدان.
احتفظ أيضا بأعداد من الصحف التي وثقت شهادات طبية تزعم أن من ماتوا إنما ماتوا بالاختناق وليس بالقتل قنصا، وكان قبول ذلك هو السببل الوحيد أمام الأهالي لاستلام جثث ذويهم ليدفنوهم، وكيف أن بعض الأهالي وافقوا صاغرين أمام بطش الداخلية، وكيف كانوا يرون أمامهم جثثا بها آثار طلقات الرصاص لكنهم يوقعون إقرارات على أن سبب الموت اختناق، وجوه ستظل تذكر الكثير ولن تنسى كفقراء لا حيلة لهم سوى الحزن على ما فات.
أوثق لابنائي هذا التاريخ المعاصر حتى يعرفوا حين يكبرون أننا حاولنا مرات كثيرة، وأن الوطن يستحق أن نحلم من أجله، ونموت على أرضه، وأن ما كانت عليه ثورة يناير هو الحق في الحياة حتى لا نعيش في شبه دولة ما بين صناعة الفقر والترويج له.