منذ بضعة أيام قامت فتاة مصرية بكتابة بوست على صفحتها الشخصية على فيس بوك تحكي فيه معاناتها في زيجتها غير الموفقة والتي تمت بشكل عرفي وأسفرت عن ولادة طفل يرفض والده الاعتراف به، وقامت الفتاة –هدير مكاوي– بطلب الدعم لقرارها ولادة الطفل والاستعداد لبدء سجال قانوني لإثبات نسب طفلها لوالده في مواجهة تهديدات من أهل والد طفلها الذين استعانوا فيها بأمن الدولة!!.
أثار هذا البوست عاصفة لم تهدأ حتى الأن في المجتمع وبخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي فيس بوك وتويتر. وانقسم المهتمون بين مهاجمين ومدافعين عن ما فعلته هدير واتخذ النقاش في السائد لغة حادة وسبابا وشتائم وتم تبادل الاتهامات وانطلقت هاشتاجات (وسم) عديدة لتشويه الفتاة وسمعتها في مقابل مواقع وهاشتاجات أخرى انطلقت لدعمها.
ووفقاً للإحصائيات والأرقام فإن ما قامت به هدير –الزواج العرفي- لا يعد غريبا على المجتمع المصري وكذلك الطلاق الذي تعدت نسبته مؤخراً 40% -مصر الأولى عالمياً في نسب الطلاق-، وحتى رغبتها في إقامة دعوى إثبات نسب فقد أصبحت ليست بالشىء الغريب في المجتمع المصري في ظل وجود 7 آلاف قضية إثبات نسب في 2016 وحدها.
ما يبدو جديداً في ما يخص هدير تحديداً هو اختلاف طريقة تعاملها مع محنتها الشخصية عن المعتاد مجتمعياً، وأعني قرار احتفاظها بالطفل ومواجهة والده وأهله وأيضاً أهلها ونشر الموضوع على نطاق واسع مجتمعياً بحثاً عن الدعم وذلك بدلاً من الطرق المعتادة مجتمعياً ومنها إجهاض الطفل والتستر على التجربة بأكملها أو السعي لإثبات النسب عن طريق المحاكم والإجراءات القانونية أو محاولة الحصول على دعم أهلها والحفاظ علي طفلها وحل الأزمة بالطرق الودية أو غيرها من الطرق المألوفة مجتمعيا، والأهم بالتأكيد خلال كل هذه المحاولات الحفاظ على السرية وعدم فضحها لنفسها أو عائلتها، كما أشار الكثيرون من مهاجميها والذين استخدموا مصطلح ديني معروف وهو "عدم المجاهرة بالذنب".
السؤال هنا ما هو الذنب الحقيقي او الخطيئة التي أرتكبتها هدير؟
لا يعد الزواج العرفي خطيئة وفقاً لتعاليم الدين الإسلامي وكذلك الزواج بدون ولي حسب أحد المذاهب الفقهية وبالتأكيد ليس السعي لإثبات نسب الابن لأبيه بخطيئة. ولكن ما يبدو حقيقة الخطيئة الأساسية لهدير هو خروجها عن النمط الاجتماعي السائد والمجاهرة بهذا الخروج علانية، لأن هذا التصرف كان هجوماً مباشراً من هدير على الكثير من المعتقدات والمفاهيم الفكرية الراسخة حول طرق التصرف المقبولة والأدوار الاجتماعية المفترضة للنساء في المواقف المماثلة في عقول ملايين البشر -رجالا ونساء- في هذا البلد تحديدا في هذا التوقيت.
والغريب أن المعتقدات المجتمعية وما قد يتم قبوله بشكل جماعي في وقت ما ومن مجتمع بعينه قد لا يكون متعلقاً بالصواب والخطأ أو كونه حلالا أو حراما، فمثلاً يتعايش المجتمع المصري منذ عقود مع ما يطلق عليه جرائم الشرف والتي يتم قتل الفتيات فيها بواسطة أحد أقربائها عند الشك في سلوكها وغالبا ما يتم الحكم عليه بأحكام مخففة ويقابل بتسامح وتعاطف مجتمعي.
كتب أحد الفلاسفة الإغريق قديماً ما معناه: "يضطرب الناس ليس بالأحداث وحدها ولكن أيضاً من الأفكار أو وجهات النظر التي تتشكل عن الدنيا والناس والعلاقات وحتى نفسهم بسبب هذه الأحداث".
ما تعنيه هذه الجملة أن هناك ملايين الطرق التي من الممكن أن يؤثر بها الحدث الواحد على كل منا حسب رؤيتنا وإدراكنا للحدث.
لذا فما قامت به هدير هاجم بشكل مباشر المفاهيم التي تربى عليها ملايين البشر والتي تعودت أن ترى العالم من خلالها ومؤمنة بها، وكشف تصرف هدير لهم بشكل صادم ومؤلم أن من الممكن أن فتاة عادية مثلهم تنتمي للطبقة الوسطى ومن ثقافتهم وليست مشهورة ولا تمتلك المال اللازم ولا مدعومة بشكل مؤسسي من الممكن أن تتصرف بشكل مختلف عن النمط المجتمعي السائد.
الأخطر أنها بتصرفاتها المختلفة من الممكن أن تشجع غيرها ليقلدونها وهو ما قد يسفر عن تغير جماعي في الطريقة التي تتصرف بها النساء في هذا البلد، والجميل في السلوكيات الجماعية -حسب كلام علم النفس المجتمعي- أنها عند تكرارها لمدد معينة وبحجم معين في المجتمع تستطيع تغيير أفكار ومفاهيم ومبادىء ومشاعر الأفراد ناحية هذا السلوك.
هذا يعني أن القضية أو الموضوع الذي فتحته هدير -بشجاعتها أو بخروجها عن المألوف حسب وجهة نظرك- مهم جداً لأي شخص مهتم بهذا المجتمع ويريد أن يساهم في تحسين ظروف أفراده الذين يعيشون فيه بشكل أو بأخر.
إن أفكار ونقاشات جديدة تراعي ظروف المجتمع الحالي حول مفاهيم الزواج والارتباط والأسرة وحدود تدخل الأهل والدولة، والجدال حول الإنجاب والإجهاض ومدى الحرية الجنسية للرجال والنساء في مجتمعنا ومدى تدخل الدولة والمجتمع في تحديد أو ضبط هذه الحدود وما يترتب على ذلك كله من تغيير في منظومة القوانين هي المكسب الحقيقي الذي قد نخرج به مما أثارته قضية هدير. والذى سيكشف الحدود الحقيقية للتسامح مع الاختلاف وحدود قدرتنا على التعايش السلمي في مجتمعنا المحتقن والمأزوم.
إن فتح باب النقاش في هذه المواضيع هو الأهم الذي قد تكون محصلته النهائية هي العامل المحدد لمصير ابن هدير وربما مصيرنا جميعاً نحن وأبنائنا كذلك.
*طبيب نفسي