هل كانت هناك فرصة حقيقية نحو تحول ديموقراطى فى مصر؟ الحقيقة أن مصر لم تشهد فى عهدها الجمهورى فرصة حقيقة للتحول الديموقراطى إلا فى الأسابيع القليلة التى تلت إزاحة مبارك، ثم انتهى كل شىء سريعا فور التصويت على الهوية فى استفتاء مارس 2011، ومع حلول صيف هذا العام كانت أحلام الديموقراطية قد تلاشت تماما.
تكررت الفرصة لفترة قصيرة فور انتخاب برلمان 2012 وهو بالمناسبة المؤسسة الوحيدة التى استحقت لقب برلمان فى تاريخ الجمهورية، لكن ما لبثت صراعات الهوية أن حطمت الفرصة مرة أخرى! ثم كانت الفرصة الأخيرة فور انتخاب الرئيس الأسبق محمد مرسى وأضاعها الأخير وجماعته على النحو الذى يعرفه الجميع!
باستثناء هذه الفرص المحدودة والتى لم يستمر كل منها إلا لأسابيع قليلة لم يكن هناك فرص حقيقية للتحول الديموقراطى فى تاريخ الجمهورية المصرية، والذى هو تاريخ من المحاولات الديكتاتورية المتعاقبة الفاشلة للحكم.
وباستثناء بعض الإنجازات الاجتماعية لعبدالناصر وبعض المناورات الإقليمية للسادات ومبارك فشلت الأنظمة المصرية المتعاقبة على توفير نظام حكم سلطوى ناجح، فكان الفشل ــ ومازال ــ العنوان الأبرز للمحاولات الديكتاتورية لحكم مصر.
***
يوم الأحد 5 مايو عام 2013 نشرت فى هذه المساحة مقال بعنوان «صراع ضد الديكتاتورية أم حول نكهتها» كنت أرى فيه بوضوح أن الصراع فى مصر لم يعد من أجل الديموقراطية ولكنه أصبح من أجل الديكتاتورية وأن الخلاف الذى قد وصل مداه فى هذه الفترة العصيبة من تاريخ مصر الحديث لم يكن من أجل الديموقراطية ولكن كان حول نكهة الديكتاتورية وهويتها (إسلامية/عسكرية).
يوم ٣ يوليو كان محاولة جادة من قبل مؤسسات الدولة للتحول الديكتاتورى، أى لإنهاء حكم الإسلاميين الذى بدا فوضويا وإعادة نسخة ديكتاتورية منقحة وأفضل حالا من تلك النسخة المباركية الرديئة.
فى تقديرى فإن الكثير من التيارات «المدنية» شاركت فى تلك المرحلة وهى تعلم جيدا أن الطريق المرسوم لمصر هو طريق السلطوية وهيمنة المعادلات الأمنية/العسكرية على عملية صنع القرار السياسى، ولكنها وعلى الرغم من ذلك شاركت فى الطريق المرسوم الجديد بحثا عن نصيب من كعكة السياسة، بعد أن تأكد لهم أن الحصول على هذه الكعكة بمشاركة الإسلاميين هو أمر غير ممكن أولا، وأن فرص المنافسة للوصول إلى السلطة بأصوات الشعب هو أمر صعب ثانيا!
باختصار بدأت مصر مرحلة التحول الديكتاتورى فى يوليو 2013 بمشاركة التيارات «المدنية» مع مؤسسات الدولة القوية (المؤسسة العسكرية والقضاء والأجهزة الأمنية المختلفة) نحو هدفين، الأول هو أن تستعيد مؤسسات الدولة هيبتها وسيطرتها على الموارد من خلال تأميم السياسة عبر نسخة سلطوية أكثر إنتاجية وصرامة من نسخة مبارك، والثانى هو أن يتم ذلك من خلال مشاركة بعض التيارات المدنية التى «ساندت الدولة» للتخلص من الإسلاميين لبعض المكاسب السياسية والاجتماعية!
فى خلال عامين فقط (بين 2013 و2015) فشل هذا التحول الديكتاتورى التشاركى لأن الفاعلين الأمنيين قرروا ولأسباب كثيرة الانفراد التام بالمعادلة السياسية دون إعطاء أى اعتبار لأى وعود سابقة أعطتها للتيارات المدنية التى شاركتها طريق التحول الديكتاتورى منذ البداية.
ويتذكر الجميع كيف عمدت أجهزة الدولة فى هذه الفترة حرق أغلب الأوجه «المدنية» التى كانت محسوبة عليها بما فيها حتى من أيَّد بلا شروط أو قيود كل الإجراءات القمعية التى اتخذت منذ يوليو 2013 إلى حينه.
ثم جاء الفشل الأكبر بأن عجزت هذه المعادلة السلطوية المنفردة عن الوفاء بالتعهدات الأمنية والاقتصادية للشعب، وسريعا دخلت فى مواجهات مع حلفائها الإقليميين بل مع بعض مؤيديها فى الداخل!
التحول الديكتاتورى مأزوم فى مصر لأن الحد الأدنى من الرشادة حتى بالمعايير البرجماتية غير موجود لمعظم الفاعلين السياسيين فى مصر!
طريقة التفكير متواضعة، ساذجة، وقتية، تبحث عن المكاسب السريعة بـ«الفهلوة» و«الدروشة» دون أدنى اعتبار للتحولات التاريخية المعاصرة التى أصبحت تدفع مصر بعيدا عن مقاعد القيادة الإقليمية عربيا وأفريقيا.
مجموعة من السرديات الوطنية التاريخية المتهافتة التى لم يعد لها أى معنى فى عصر الإنتاج والتكنولوجيا والإبداع الذى يلزمه تخطيط وابتكار لم يعد له مساحة حقيقية فى المحروسة!
***
الاعتراف بالحقائق صعب، ولكنه أفضل بكثير من خداع النفس، ليست المشكلة فقط أننا دولة ديكتاتورية، لكن المشكلة أن ديكتاتوريتنا مأزومة، عقيمة وعاجزة عن الإنتاج فما بالنا بالإبداع؟
إذا قررنا إذن أن نتحول إلى السؤال الأهم وهو كيف السبيل إلى الخروج من هذه الأزمة؟ أين بداية الطريق؟ فى تقديرى يلزم كل القائمين على المشهد المصرى التفكير فى الأبعاد الخمسة التالية؟
أولا: هل نأخذ التاريخ على محمل الجد؟ ماذا تعلم القائمون على الأمر فى مصر من خبرة ما يقرب من سبعة عقود من عمر الجمهورية؟ نفس السياسات ونفس النتائج!
خسائر خارجية تفوق المكاسب، استنزاف للموارد دون تطوير، الدخول فى صراعات عدمية تنتهى من حيث بدأت! ألا يستحق التاريخ أن يؤخذ بشكل أكثر جدية؟
ثانيا: الأمن وحده لا يكفى! قلت مسبقا إن الأمن لدولة مثل مصر هو أمر لا جدال فيه أو مساومة عليه، فمشاركة المؤسسات الأمنية فى صنع أو اتخاذ بعض القرارات هو أمر حتمى، لكن هيمنة الأمن على كل مناحى السياسة فى مصر لم يعد مقبولا، ولم يعد ناجحا ولم يعد منتجا!
ثالثا: مصر لن تقوم إلا بالمبدعين، التمام والأمر والنهى وطوابير الذنب التى نعيش فيها لن تنتج أى إبداع، فقط ستنتج مجموعة من الموظفين الخائفين المطيعين وسيهجرها أى موهوب!
عدد الموهوبين المتبقين فى مصر يقل يوما بعد يوم والكثير منهم أصبح لا يظهر موهبته لأنه يعلم جيدا أن الموهبة قد أصبحت مصدر تهديد أمام جيش من الموظفين والمخبرين والمنافقين!
يعلم أى منصف أن هذا هو وضع معظم المؤسسات المصرية، وبالتالى الحديث عن تحديث أو تطوير مصر دون الحفاظ على مبدعيها وموهوبيها هو من قبيل الأوهام التى لن تتحقق.
رابعا: هل يمكن أن نتخيل أن هناك زعيما بلا دولة؟ أو دولة بلا مجتمع؟ نظريات التنمية تتحدث عن أن جوهر عملية التنمية هو الشراكة بين المجتمع والدولة، دولة قوية بمجتمع ضعيف ومهان هى بالفعل شبه دولة!
زعيم مؤمن بإلهامه الشخصى بلا دولة ولا مجتمع هو ليس بزعيم!
لا استقرار ولا تقدم ولا تنمية إلا بمجتمع مدنى! وهناك فرق بين مجتمع مدنى مقيد ولكن مازالت أمامه مساحات للعمل والمناورة والمساعدة، وبين مجتمع مدنى ميت ومؤممة أمواله وأعماله، لا أمل فى دولة بلا مجتمع!
خامسا: المدنيون هم أصل العمل السياسى سواء كان هذا العمل فى إطار ديموقراطى أو ديكتاتورى! العمل السياسى هو مهنة المدنيين بالأساس، قد تكون هناك ظروف أو استثناءات أو توازنات قوة تسمح بمشاركة مدنية عسكرية/أمنية فى إدارة شئون الدولة والمجتمع أما أن يتم إزاحة المدنيين بالكامل وتهميشهم والتربص بهم لحرقهم وإظهار ضعفهم أمام العامة، فهو من شأنه دفع المؤسسات الأمنية والعسكرية إلى لعبة السياسة شديدة الخطورة مرتفعة التكاليف!
مصر تتحول ديكتاتوريا لا ديموقراطيا، بل تتحول تحولا مأزوما وفاشلا، لأن حتى مقومات الحكم السلطوى مفقودة فى مصر!
مصر تبحث عن نفسها عبر محاولة استلهام روح أزمنة غابرة لم تعد تسمن ولا تغنى من جوع، فإما البحث عن صيغ ومعادلات مختلفة للحكم التشاركى أو التمسك بتلك النسخة الفردية الأمنية والتى نرى نتائجها حاضرة أمام الأعين ولكننا نتظاهر بعدم الفهم! أو ربما نخشى من الكلام الذى أصبحت تكلفته تزداد يوما بعد يوم!
نقلا من الشروق.