بالتعريف فإن الإعلام مسألة حرية ومسئولية ومهنية.
عندما تضيق الحرية فإن الكلام عن المسئولية أقرب إلى أوهام محلقة.
وعندما تغيب المسئولية فإن المهنية أول الضحايا.
بقدر ما يتوافر من حرية يكتسب المجتمع حقه فى معرفة ما يجرى حوله من أخبار ومعلومات، وأن يقرأ ويحكم على الآراء المختلفة بالقضايا العامة دون مصادرة ووصاية.
بالتاريخ وحقائقه ولد التلفزيون العربى، كما كان يطلق على «ماسبيرو» مطلع ستينيات القرن الماضى، عملاقا وملهما.
لم تكن تلك ضربة حظ، ولا مصادفة جرت بغير فكر استوفى مقومات ومعايير النجاح.
إن نجاح التلفزيون، أى تلفزيون، يعتمد على أربعة معايير أساسية وفق الإعلامى الكبير «حمدى قنديل» أحد رواد ونجوم مرحلة التأسيس والريادة:
الأول: أن يكون للدولة مشروع وطنى ودور قومى فى محيطها.
والثانى: أن تحظى رسالته بإجماع شعبى.
والثالث: أن تنبع التجربة من رحم نهضة فكرية وثقافية.
والرابع: أن يحظى بمستوى مهنى عال.
عندما تراجعت بقسوة تلك المعايير خسر «ماسبيرو» جمهوره وتأثيره واحترامه فـ«أنت لا تقنع إلا بما هو مقنع»، كما قال الأستاذ «محمد حسنين هيكل».
لم يكن هناك شىء مقنع فى الأداء الإعلامى فتدهور كل شىء داخل المبنى العريق وهجرته كفاءاته ومواهبه، ونهب أرشيفه دون حساب وعقاب.
أخطر ما يحدث الآن أن «ماسبيرو» ــ تلفزيون الدولة ــ تكاد تطلق عليه رصاصات الرحمة الأخيرة.
هناك أطراف فى الدولة تسعى للهيمنة على الفضائيات الخاصة، وهذا تطور سلبى لا يمكن تجنب آثاره الخطيرة، كما أنه يفضى إلى إنهاء «ماسبيرو» بالترك والإهمال والادعاء أنه لا يمكن إصلاحه.
التفكير القديم فى عصور جديدة عواقبه مكلفة.
تأميم الإعلام لا يلائم اقتصاد السوق، ولا طبيعة العصر وثورة المعلومات والاتصالات.
وفق ما قاله لى أشهر إعلامى عربى فى التاريخ الحديث الأستاذ «أحمد سعيد» مؤسس إذاعة «صوت العرب»، فإن إعلام التعبئة، الذى عبر عنه أكثر من غيره وكان نجاحه أمثولة تدرس، انتهى زمنه، فلا توجد قضية تلهم ولا مشروع يقود، فضلا عن أن حقائق العصر تستدعى التعدد حتى لو توافرت القضية ووجد المشروع.
من لا يدرك اختلاف العصور كمن يعاند الحقائق.
وقد أسفرت النتائج عن أوضاع خطرة فى لحظة حرجة.
الأولى: تدهور قيمة المنتج الإعلامى وسيادة نوع من الأداء على الشاشات أقرب إلى ما يجرى فى الحوارى الشعبية من عبارات لا تصح أن تذكر أو تسمع تنتهك الحرمات الشخصية لمجرد الاختلاف فى الرأى.
الثانية: سيادة برامج الترفيه والتسلية على الشاشات مقابل التراجع الحاد لأية برامج جادة تناقش قضايا الشأن العام.
فى العصر الذى نحياه الصوت الواحد يعنى بالضبط نوعا من الموت الإكلينيكى لأى إعلام.
للترفيه والتسلية ضروراتها فى تكامل الوجبة الإعلامية، غير أنها عندما تتسيد وحدها الشاشات فإنها تنكر على الرأى العام حقه فى معرفة ما يجرى حوله ويؤثر على مستويات معيشته ومستقبله نفسه.
الثالثة: توجه قطاعات متزايدة فى الرأى العام إلى إدارة أجهزة «الريموت كنترول» إلى محطات إقليمية ودولية موجهة إلى العالم العربى للحصول على ما تحتاجه من معلومات والاستماع إلى آراء أخرى كانت تتيحها فضائياته حتى وقت قريب.
فى حركة «الريموت كنترول» انتعشت فضائيات توالى جماعة الإخوان تبث من استنبول ولندن، وتلك لا يمكن مواجهتها بالمنطق القديم تأميما مقنعا، أو إطفاء بالضغوط لأى قنديل زيت فى عتمة الأوضاع الصعبة من أزمات اقتصادية طاحنة وحروب مع الإرهاب منهكة.
الرابعة: تقدم شبكة التواصل الاجتماعى لملء الفراغين السياسى والإعلامى، وقد احتكرت تقريبا تحديد أجندة السجال العام.
بطبيعة الشبكة فإنها قد تعكس فى كثير من الأحوال حقيقة الإرادة العامة بخصوص قضايا بعينها، بعضها لا تجرؤ صحف أو فضائيات على الاقتراب منها.
ذلك قياس رأى عام لا سبيل إلى التشكيك فيه.
إلا أن ذلك ليس طبيعيا، فتحديد أجندة السجال العام مهمة السياسة أولا نظاما ومعارضة، ومهمة الإعلام ثانيا صحفا وفضائيات.
بطبيعة نفس الشبكة فإنها تفتقر إلى أية معايير مهنية منضبطة عند تداول الأخبار والمعلومات، كما يشوب تفاعلاتها انفلاتات ألفاظ من لجان إلكترونية تقارب وتزيد عما يذكر على الشاشات المتفلتة.
أخطر ما فى «التأميم المقنع» استناده إلى عصر غير عصره ومنطق يصادم الحقائق.
هناك من تصور أن الإعلام يقيم نظما ويسقط أخرى، وذلك ليس صحيحا.
سقط نظام «حسنى مبارك» بانسداد القنوات السياسية والاجتماعية وافتقاد أى أمل فى إصلاحه من الداخل بعد التزوير الفاضح لانتخابات مجلس الشعب عام (٢٠١٠).
حسب تعبير وزير الإعلام الأسبق «أنس الفقى» فإن «المستفيد الأول من اتساع هامش الحريات الصحفية والإعلامية هو النظام نفسه».
كان استنتاجه صحيحا.
بقدر اتساع الحريات الصحفية والإعلامية انفسح المجال العام لرهانات على الإصلاح من الداخل، رغم ما أصاب النظام من وهن تجلى بالانتخابات الرئاسية الشكلية لعام (٢٠٠٥) واتساع حركة الاحتجاج على مشروع التوريث وتفشى الفساد ببنية الدولة وزواج السلطة بالثروة.
فى انفساح المجال العام لرهانات الإصلاح من الداخل تمكن النظام من تمديد بقائه خمس سنوات أخرى حتى يناير (٢٠١١).
رغم الدفاع المستميت لفضائيات عامة وخاصة عن النظام فإن كلمة الشعب كانت حاسمة.
لعب بعض الإعلام، صحفا وفضائيات، دورا جوهريا فى تهيئة الأجواء لـ(٢٥يناير)، لكنه لم يكن صاحب الثورة، وأى كلام آخر ادعاء.
ولعب بعض الإعلام دورا جوهريا آخر فى تهيئة الأجواء لـ(٣٠ يونيو)، لكنه لم يكن صاحب الكلمة الفصل.
أرجو ــ أولا ــ أن نتذكر أن جماعة الإخوان عينت بقرار واحد أكثر من (٥٠) رئيس تحرير للصحف والمجلات القومية، وأنها هيمنت على أكثر من (٢٠) قناة تلفزيونية مملوكة للدولة.
وأرجو ــ ثانيا ــ أن نتذكر أن المحطات الفضائية الخاصة دأبت، باستثناءات محدودة، على استضافة قياداتها والمتحدثين باسمها فى كل البرامج.
لم يكن ممكنا أن تخرج شخصية مدنية تنتمى إلى جبهة الإنقاذ فى أى برنامج دون أن يكون متواجدا معها ممثل للجماعة الحاكمة.
بتقدير ما فإن الفضاء الصحفى والإعلامى سيطرت عليه الجماعة بنسبة لا تقل عن (٧٠٪).
لم يكن الإعلام هو الذى أسقط الجماعة، فهى التى أسقطت نفسها عندما فشلت فى تجربة الحكم وأثارت مخاوف مجتمعها بالتكويش على السلطة والسعى لتغيير طبيعة الدولة بإضفاء طابع دينى عليها.
رغم تفوقها من حيث الكم ونسبة الحضور فإنها خسرت السجال العام، غلبها تعاليها وأجهز عليها خسارة الرأى العام.
أرجو ــ ثالثا ــ أن نتعلم شيئا من التاريخ.
نقلا عن الشروق.