تحليلات وآراء

سألنى أحد طلابى ما الفارق بين إيران والسعودية؟ لماذا ينجح الإيرانيون فى سياستهم الخارجية بينما يفشل العرب على الرغم من أن النظام السياسى الإيرانى مماثل للكثير من الدول العربية ولا سيما المملكة العربية السعودية مثلا من حيث إنه نظام ديكتاتورى أولا ودينى ثانيا؟

ذكرنى هذا السؤال بسؤال قديم يقول: لماذا تنجح ديكتاتورية الصين بينما تفشل الديكتاتوريات العربية؟ ويذكرنى هذا السؤال بدوره بتساؤل آخر يقول ما الفارق بين ديكتاتورية أردوغان وبين ديكتاتورية جيرانه العرب؟

الحقيقة أن كاتب هذه السطور ليس مغرما بأى نظام ديكتاتورى سواء كان ناجحا أو فاشلا، فهو يرى أن السبيل الوحيد للتقدم والتحضر هو اتباع نظام ديمقراطى مدنى تعددى يحترم قيم المواطنة وحقوق الإنسان ودور المجتمع المدنى، كما أنه يرى أن حسابات النجاح والفشل للنظم السياسية بشكل عام والسلطوية منها بشكل خاص متباينة، لأن زيادة الناتج القومى لو لم يعكس سياسة توزيعية عادلة فإنه يظل نظاما فاشلا!

ولو أن قوة الدولة لم تنعكس على نمط حياة مواطنيها فإنها تكون قوة وهمية! ولكن بعيدا عن إيمانى الفردى، فالظروف البائسة الحالية للمنطقة تستدعى بعض الكلمات للخوض فى تباين النظم الديكتاتورية واختلاف سياساتها فهذا هو سقف نقاشنا فى تقديرى لأعوام قادمة!

كما أن الديمقراطية مستويات، فالديكتاتورية مقامات! على سبيل المثال لا يستوى النظام السلطوى الصينى مع نظيره فى كوريا الشمالية! كما أن ديكتاتورية بوتين فى روسيا ذات مقام مختلف عن ديكتاتورية موجابى فى زيمبابوى!

وبكل تأكيد كانت ديكتاتورية صدام حسين مختلفة عن ديكتاتورية مبارك وهكذا! بعض هذا التباين يرجع إلى مقدرات الدولة السياسية والاقتصادية! فلا يمكن مقارنة مقدرات الصين وروسيا بمقدرات مصر أو تركيا!

كما أن مقدرات الدولتين الأخيرتين لا تقارن بمقدرات دول أخرى مثل تشاد أو أوغندا وهكذا!لكن بالإضافة لمقدرات الدول فطريقة الحكم السلطوى أو الديكتاتورى أيضا تختلف فيما بينها! فهناك ديكتاتوريات دينية (إيران /السعودية) وهناك ديكتاتوريات علمانية (الصين/الاتحاد السوفيتى)!

وهناك أيضا ديكتاتوريات عسكرية (تشيلى أيام بينوشيه أو باكستان تحت حكم برويز مشرف) وهناك ديكتاتوريات مدنية (تركيا تحت رئاسة أدروغان منذ ٢٠١٤ أو سوريا وقت بشار قبل ٢٠١١، أو تونس بن على) وهناك نظم أخرى ديكتاتورية مختلطة مثل مصر وقت مبارك! وأخيرا وليس آخرا فهناك ديكتاتوريات فردية (مصر منذ ٢٠١٣ أو ليبيا قبل ٢٠١١) وأخرى تشاركية (الصين، إيران وتركيا فى اللحظة الراهنة)!

***

الديكتاتورية التشاركية تظل ديكتاتورية! فهى نظام تسلطى لا يسمح بالتعدديات ولاسيما السياسية منها كما أنه يحتكر السلطة ولا يقبل بتداولها تحت أى ظرف!

يقوم بكل إجراء من شأنه تأميم وعى الجماهير ولا يقبل إلا بانتخابات محسومة سلفا تتم إجراءاتها عادة فى ظل ضغوط على أى أحزاب معارضة أو تيارات سياسية ممانعة وفى ظل انحياز تام من قبل أجهزة الدولة التنفيذية للحزب الحاكم أو التيار المدعوم من هذه الأجهزة!

فقط تختلف هذه الديكتاتورية عن غيرها فى طريقة صنع القرارت وتوزيع عوائد السياسات!

الديكتاتوريات الفردية تقوم باتخاذ القرارات بشكل منفرد وسريع وغير مدروس ولخدمة مؤسسات أو جماعات مصالح محدودة وعادة ما يتم ذلك بالاعتماد على الإلهام الشخصى للزعيم أو القائد السياسى الذى يعمد هو وعدد محدود من المحيطين به على تقزيم أى منافس حالى أو مستقبلى حقيقى أو تخيلى حتى لو كان من داخل النظام أو محسوب عليه!

قد تتمادى النظم الديكتاتورية الفردية إلى ما هو أبعد من ذلك، فقد تعمد إلى اصطياد بعض الإصلاحيين حتى يقبلوا بمعادلتها السياسية ترفعهم بعض الدرجات فى السلم الاجتماعى والسياسى ثم تقوم بحرقهم فرادى واحدا تلو الآخر بحيث إنهم لا يقدرون على المنافسة داخل النظام ولا هم قادرون على العودة إلى صفوف المعارضة بعد أن تم حرق مواقفهم السياسية!

أما نظم الديكتاتورية التشاركية فهى تقوم باتباع معادلة شبة تعددية ولكنها مشروطة!

الشرط الرئيسى فى هذه النسخة المحدودة من التعددية هو أنها تسمح بنطاق أوسع فى عملية صنع لا اتخاذ القرار بشرط أن تتم من خلال مؤسسات النظام وأجهزته، وأن تبقى أية تفاصيل فنية أو سياسية داخل المطبخ السياسى الذى صنعت من خلاله هذه القرارات!

الديكتاتورية التشاركية بهذا المعنى تختلف عن نظيرتها الفردية من ثلاث زوايا. الأولى أن عملية صنع القرار فى حالة النسخة التشاركية أكثر اتساعا من حيث إشراك عدد أكبر من المؤسسات والأفراد، وثانيا من حيث كونها أكثر احترافية بحيث أنها تعتمد على عدد أكبر من الاستشارات الفنية والدراسات العلمية سعيا وراء قرارت محترفة وقادرة على تغير الواقع،

وثالثا وأخيرا من حيث أنها أكثر قدرة على توزيع المغانم والمكاسب على عدد أكبر من الفاعلين السياسيين وبالتالى فهى أكثر قدرة على إرضاء أكبر عدد ممكن من الفاعلين السياسيين والاجتماعيين عبر دعوتهم للمشاركة فى كعكة السياسة!

وعلى العكس من ذلك فعملية صنع القرار فى النظم القائمة على الديكتاتورية الفردية عملية محدودة للغاية تعتمد على عدد محدود من اللاعبين فى اتخاذ القرارت التى تكون عادة غير مدروسة ولا محترفة لأنها تنفذ بناء على توجيهات وإلهام «السيد الرئيس» وأخيرا فهذه القرارات ذات قدرة توزيعية محدودة بحيث أنها لا ترضى سوى عدد محدود جدا من الفاعلين والمؤسسات والتى تسعى بدورها إلى احتكار هذه المكاسب مما يثير غضب عدد كبير من الفاعلين الآخرين الذين يسعون بدورهم إلى تغيير هذه المعادلة إما عبر وسائل عنيفة أو سرية أو كليهما!

***

هناك أشكال متعددة للديكتاتورية التشاركية، منها نموذج الديكتاتورية التشاركية الشعبية الذى يعتمد على إشراك أكبر عدد من المواطنين أو من يمثلهم فى العملية السياسية عبر تمثيلهم فى المستويات التنظيمية المختلفة للحزب الواحد أو المهيمن الحاكم،

كما أن هناك نموذج الديكتاتورية التشاركية المحلية والتى تقصر المشاركة فى عملية صنع القرار فى المستوى القومى على عدد محدود من اللاعبين السياسيين والمؤسسات والتنظيمات بينما تسمح بمزيد من المشاركة فى عملية صنع القرار على المستوى المحلى كشكل من أشكال الحكم المحلى المحدود والمقيد بالسياسات العامة للنظام،

ثم هناك أيضا نموذج الديكتاتورية التشاركية المحترفة والتى تعتمد على إشراك حقيقى للمتخصصين فى الأمور الفنية بحيث تخرج القرارت كحاصل تفاعل لأكبر عدد ممكن من الاستشارات الفنية الحقيقية لا الشكلية!

هى نوع من الديكتاتورية الذكية التى تتمكن من جذب المثقفين والعلماء وقادة الفكر والرأى لا من أجل حرقهم والتلاعب بهم ولكن من أجل تمكينهم ودعوتهم للمشاركة فى تجويد عملية صنع القرار.

الديكتاتورية هى الديكتاتورية! نظام تسلطى ظالم ومستبد ومقيد للحريات والإبداع والتعددية، لكن إذا كانت الديكتاتورية قدرنا إلى حين فيحب أن نفهم أنها ليست نسخة واحدة ولكنها مقامات مختلفة!

يجب أن نفهم أيضا أن الديكتاتوريات الأكثر نجاحا أو انتاجا هى الديكتاتوريات التشاركية التى تتبع إحدى المعادلات الثلاث المذكورة فى الفقرة السابقة، أما أفشلها فهى الديكتاتوريات الفردية القائمة على الإلهام الفردى والتجويد الشخصى لفرد أو مجموعة محدودة من الأشخاص ممن يعتقدون بإلهامهم الإلهى وهم فى الواقع ليسوا أكثر من مستبدين محدودى المواهب!

***

مصر فى الفترة من ٢٠١٧ وحتى ٢٠٢٢ غير مرشحة بكل الحسابات المنطقية لأن تنتقل إلى مرحلة التحول الديمقراطى بغض النظر عن بقاء الرئيس من عدمه، سواء قامت ثورة أو لم تقم، أو سواء جاء رئيس قادم من داخل المنظومة الحاكمة أو من خارجها!

مصر فى تلك السنوات القادمة أمامها ثلاثة طرق، إما الاستمرار بنسخة«مصر المحدودة«، أى مصر المحكومة بنسخة ديكتاتورية فردية تعيش اليوم بيومه وتتأخر أكثر مما تتقدم، لا تنهار ولكن أيضا لا تتطور بل تقبع فى مكانها هادمة لأحلام ومقيدة لطاقات شعبها،

أو أن تصل لا قدر الله لطريق«مصر المنهارة» حيث الوصول إلى نقطة الانفجارات المفاجئة حيث الانتقام وتصفية الحسابات والدم والثأر والثأر المضاد، أو تتخذ الطريق الثالث والأخير وهو طريق الإصلاحات المحدودة عبر السماح بنسخة حكم سلطوية تشاركية مقيدة سواء من وضع شروط وقيود هذه المعادلة التشاركية النظام الحالى أو النظام القادم من المعارضة!

هذه النسخة تتطلب أكبر قدر ممكن من البرجماتية والرشادة والبعد عن الشعارت والسجع والشعر وكل ما من شأنه أن يحدث ضجيجا بلا طحين!

ديكتاتورية تشاركية تسمح بمكونات مدنية أكبر فى المعادلة السياسية وتضع بعض القيود والشروط التى تحد من تغول بعض السلطات أو المؤسسات فى الحياة السياسية أو المعادلة الاقتصادية، هى سقف آمالنا فى السنوات القليلة القادمة، فأى طريق نختار؟

تعليقات الفيسبوك

التصميم والتطوير بواسطة WhaleSys