لم تكن معركة حلب قد حسمت عندما التقى الرئيس الروسى «فلاديمير بوتين» فى أحد قصور موسكو ثلاث شخصيات دولية وإقليمية وفدت للمشاركة بحفل تكريم رئيس وزرائها ورئيس استخباراتها الراحل «يفجينى بريماكوف»، الذى تربطهم به صلات وصداقات تعود إلى النصف الثانى من تسعينيات القرن الماضى.
بدا اللقاء وديا فى جانبه الشخصى وصريحا فى جانبه العام.
أنصت «بوتين» إلى تحفظات على الدور الروسى فى الأزمة السورية، وتساؤلات عن مستقبل الصراع دون تدخل أو مقاطعة، فضيوفه القادمون من روما ومدريد والقاهرة مسئولون سابقون تولوا مهام رفيعة فى بلدانهم ومحيطهم ولديهم خبرة عريضة تستدعى الاستماع إلى ما لديهم.
ضيوف «بوتين» الثلاثة هم: «لامبرتو دينى» رئيس الوزراء الإيطالى الأسبق، و«خافيير سولانا» المفوض الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية فى الاتحاد الأوروبى وأمين عام حلف «ناتو» الأسبق، و«عمرو موسى» أمين عام الجامعة العربية ووزير الخارجية المصرى الأسبق.
وقد تخلف لأسباب اضطرارية عن حفل تكريم «بريماكوف» رجلان آخران هما: «هنرى كيسنجر» وزير الخارجية الأمريكى الأسبق، و«هوبير فيدرين» وزير الخارجية الفرنسى الأسبق.
كما هو معروف، فإن مثل تلك اللقاءات غير الرسمية تعود أهميتها إلى مستوى صراحتها، فليست هناك قيود رسمية تحول دون الدخول إلى بعض المناطق المحظورة، ولا أحد يفاوض الآخر بقدر ما يريد أن يعرف ويستكشف.
فى ذلك اللقاء صدرت عن «بوتين» عبارة كاشفة بقدر ما هى غامضة، كررها عند كل مداخلة: «إننى أتفهم».
هو رجل «براجماتى» يقدر المواقف وفق ما تخدم أهدافه، وينظر فى أى ثغرات لديه دون أن يغير اتجاهه العام.
بصورة ما فإن استراتيجيته تكاد تشبه «ماتريوشكا» الدمية الروسية الشهيرة، التى تتكون من عدة دمى، كل واحدة داخل الأخرى بنفس الشكل والملامح.
تختلف الأحجام لكن الصورة واحدة.
الأمر نفسه فى الأزمة السورية.
تختلف المقاربات لكن الاستراتيجية واحدة.
فى اليوم التالى لحسم معركة حلب عمل على تثبيت مراكز نفوذه وترتيب أوراقه من جديد على صعيدى السلاح والدبلوماسية.
بالنتائج الميدانية حسم حلب تغيير جوهرى فى معادلات السلاح والقوة، لكنه لا ينهى الصراع الدموى الدائر.
وبالحسابات السياسية فإن المتغير التركى له أهمية فائقة فى المعادلات الجديدة.
تركيا تخشى على وحدتها الداخلية من إنشاء دويلة كردية بجوارها السورى ومستعدة أن تمضى معه إلى أشواط بعيدة لم تكن متوقعة.
لم يغير «بوتين» من حلفائه، فإيران شريك رئيسى فى حساباته الميدانية والسياسية، لكنه أضاف آخرين حتى يحوز وحده أغلب أوراق اللعبة، قبل أن يتولى الرئيس الأمريكى المنتخب «دونالد ترامب» مهامه فى (٢٠) يناير الحالى.
فى فراغ انتقال السلطة، والمنازعات غير المسبوقة بين إدارة تغادر وإدارة أخرى تتأهب لدخول البيت الأبيض، جرى تهميش الدور الأمريكى، فهو غير مدعو للمباحثات المنتظرة فى «أستانة» عاصمة كازاخستان للتوصل إلى مشروع تسوية سياسية للأزمة السورية يضم كل الفرقاء الإقليميين والسوريين، باستثناء «داعش» و«جبهة النصرة» ومؤيديهما.
بالنسبة لمناور استراتيجى محترف كـ«بوتين» فإنه من غير المستبعد أن تكون هناك قناة اتصال غير معلنة مع فريق «ترامب»، تحيطه بالتطورات وتتوافق معه على الخطوط العريضة حتى تتصل الحركة دون إرباك بعد أن يدخل البيت الأبيض.
من حيث الخطوط العامة فهناك أرضية مشتركة على قاعدتى محاربة «داعش» و«النصرة» وعدم تغيير النظم السياسية بالقوة المسلحة، غير أن التفاصيل قضية أخرى قد تشهد احتقانات وأزمات فى الصراع على الأحجام والأوزان والمصالح.
فى إجراءات استباقية تمهد المسرح لدور روسى جديد أقدم «بوتين» على رفع مستوى التفاهمات الاستراتيجية مع تركيا إلى توفير غطاء جوى رفضت أن تقوم به إدارة «باراك أوباما» لعملياتها العسكرية بالشمال السورى.
بنفس الوقت فإنه طور قاعدة التفاهم السياسى مع أنقرة قبل مباحثات «أستانة»، وأعلن وقف إطلاق النار على كامل الأراضى السورية.
أول التساؤلات الرئيسية: لماذا لم تكن إيران طرفا ضامنا لهذا الاتفاق بين الجيش السورى وفصائل المعارضة المسلحة كروسيا وتركيا؟
أين إيران بالضبط من التفاهمات الاستراتيجية الجديدة؟ إلى أى حد توافق وفيما تعترض؟
باليقين فهناك تباينات روسية إيرانية، أغلبها مكتوم، لكنها لا تمثل حتى الآن أزمة، والمصالح المشتركة قد تستدعى سدها فى مفاوضات الكواليس بعيدا عن عيون الآخرين.
بالنسبة لروسيا فإن المكون البراجماتى هو أساس حركتها.
وبالنسبة لإيران فإن المكون الأيديولوجى هو طبيعة مواقفها.
هكذا لخص الدكتور «نبيل العربى»، أمين عام الجامعة العربية السابق، الفارق بين ما تتبعه روسيا وما تنتهجه إيران.
وثانى التساؤلات الرئيسية: ما مستقبل جماعات المعارضة المسلحة؟
هل الموازين الجديدة تساعدها على البقاء داخل معادلة المستقبل أم تفضى بعد خطوتين أو ثلاث إلى تقويض أى مستقبل لها؟
بأرقام «بوتين» فإن هناك (٦٢) ألف مسلح ينتمون إلى جماعات معارضة، غير «داعش» و«النصرة»، ملتزمون بما تم التوصل إليه من وقف إطلاق نار بضمان روسى ــ تركى.
من ناحية واقعية لا بد أن تكون هناك خرائط لتمركزات السلاح وأوزان الجماعات، إذ إن أغلب المراكز الدولية المعنية بدراسة الملف السورى تشكك على نحو كبير فى وزن الجيش السورى الحر بالقياس على الجماعات المسلحة الأخرى، وبعضها على صلة تحالف وثيق مع جبهة «النصرة».
بحقائق القوة يصعب تصور أن يكون للجماعات المسلحة، التى تعمل تحت الغطاء التركى، وزنا يعتد به فى تقرير مصيرها نفسه، لا بالحجم العسكرى ولا بالدور السياسى.
ما يريده «بوتين» أن يعزل تجمعات المعارضة عن جماعات الإرهاب حتى يتسنى له الحسم النهائى دون أدنى اعتراض يعتد به من أى دولة غربية، خاصة أن «ترامب» يشاركه الهدف نفسه.
وما يريده «بوتين» أن يقود التوصل إلى تسوية سياسية وفق الحقائق على الأرض تضمن ما يتطلع إليه من مصالح استراتيجية واقتصادية، وأن تكون الرسالة واضحة أمام العالم، أن روسيا قوة عظمى والاستهانة بها حماقة مكلفة.
وثالث التساؤلات الرئيسية: أين إسرائيل من ذلك كله؟ وإلى أى درجة تتداخل الأزمتان السورية والفلسطينية فى ظل شبه غياب للعالم العربى؟
من المرجح أن تجرى توافقات أمريكية ــ روسية فى الملف السورى، لكنها لن تمتد إلى الملف الفلسطينى فى ظل إدارة «ترامب»، التى تعلن رفض ما توصل إليه مجلس الأمن من قرار يدين المستوطنات فى الأراضى الفلسطينية المحتلة وتتعهد بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس.
الأسوأ أن هناك ترجيحا آخر بأن تمضى بعض الدول العربية فى «توسيع كامب ديفيد» ودمج إسرائيل فى ترتيبات الإقليم بعد انتهاء الحرب على «داعش».
والتأهب الحالى لتمرير اتفاقية تسليم جزيرتى «تيران» و«صنافير» المصريتين للسعودية استباقا لحكم الإدارية العليا يؤشر لتراجعات غير مسبوقة فى الدور المصرى، وتصدعات غير محتملة فى استراتيجية الأمن القومى بالبحر الأحمر، كما أنه مشروع منازعات سياسية وقانونية تضرب فى تماسك الدولة وتفتح حربا مفتوحة بين مؤسساتها التنفيذية والتشريعية والقضائية عند لحظة خطرة فى تاريخها.
بكل الاحتمالات فإن هذه الخطوة سوف تفضى إلى أزمة عميقة بين الشعبين المصرى والسعودى فى لحظة يحتاج كل منهما الآخر عند رسم الخرائط فى الإقليم المشتعل بالنيران.
وبكل الاحتمالات لا يمكن التعويل على أحد، أيا كان نبل دوافعه، فى الدفاع عن قضايانا إذا لم يدافع عنها أصحابها.
وبكل الاحتمالات فإنه بداخل استراتيجية «ماتريوشكا» ما يستحق التأمل وما بداخل العالم العربى ما يدعو إلى الرثاء.