عند صعود البابا «تواضروس الثانى» قبل أربع سنوات طٌرح فى المجال العام سؤال مكتوم: أى نهج سوف يتبعه فى إدارة شئون الكنيسة الوطنية المصرية؟.
بصيغة أخرى: هل هو «شنودة جديد» أم «كيرلس آخر»؟.
لكل عصر حسابات تختلف عن الآخر وتحديات تفرض نفسها على الجالس فوق الكرسى الباباوى.
خريف عام (1970) رحل الرئيس «جمال عبدالناصر»، وكانت تجربة يوليو ماثلة فى وجدان طالب الصيدلة بجامعة الإسكندرية، ثم بعد شهور رحل البابا «كيرلس السادس»، وكانت تجربته الروحية ملهمة فى الطريق إلى الدير.فى مواقيت متزامنة تغيرت رئاسة الدولة ورئاسة الكنيسة.
الأولى، من «عبدالناصر» إلى «السادات» والتوجهات تناقضت.
والثانية، من «كيرلس السادس» إلى «شنودة الثالث» والأدوار تباينت.
لم يخطر ببال الشاب «وجيه صبحي»، وهو يتابع تراجيديا التحولات، أن يكون هو نفسه بعد أربعة عقود رئيسا للكنيسة باسم «تواضروس الثانى»، خلفا لـ«شنودة الثالث»، بالتزامن مع انتقال آخر فى رئاسة الدولة إلى «محمد مرسى»، الذى ينتسب إلى جماعة الإخوان.
ثم أن يشهد بعد شهور قليلة تغييرا دراماتيكيا آخر فى رئاسة الدولة وتحول طبيعة العلاقات معها من الجفوة إلى الحميمية.
عند فض اعتصامى رابعة والنهضة صيف (2013) تعرضت الكنائس لاعتداءات وحرائق وحملات ترويع، وكان أفضل ما نسب للبابا الجديد قوله: «وطن بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن».
غير أن حركة السير لم تمض على طرق معبدة، فمن حين لآخر تنشأ أزمات طائفية فى صعيد مصر وتطرح تساؤلات عن دولة القانون، التى لا تفرق بين مواطن وآخر، وارتفعت أصوات تنتقد الأداء الباباوى.
بتكوينه الروحانى فهو قريب من البابا «كيرلس»، لكن الزمن اختلف، فالأحوال السياسية بالخمسينيات والستينيات من القرن الماضى لم تكن تميز بين المسلمين والأقباط والإجراءات الاجتماعية، التى تبناها «جمال عبدالناصر»، استفادت منها الطبقة الوسطى والقوى الاجتماعية المستبعدة والفئات الأكثر فقرا، بغض النظر عن الانتماء الدينى، وتضررت منها فى الوقت نفسه الطبقات القديمة من الطرفين.
بطبائع الأمور اقتصر دور البطريرك على الجوانب الروحية.
عندما تغيرت المعادلات السياسية، وبدأت نذر الفتن الطائفية تطل من «الزاوية الحمراء»، بدأ البابا «شنودة» يطل بدور «سياسى» على المسارح المشتعلة.
تدهورت العلاقات مع الرئيس «السادات»، وتصاعدت الشكوك والريب من عام لآخر على إيقاع التحريض الطائفى حتى وصلت إلى الصدام المفتوح بعد توقيع المعاهدة المصرية ــ الإسرائيلية.
وجد «شنودة» نفسه أمام أحد اختيارين:
الأول، أن يجارى الرئاسة فى طلب التطبيع وعواقبه وخيمة.
والثانى، أن يرفض التطبيع ويذهب فى الصدام إلى منتهاه حتى لا يقال عن الأقباط أنهم «خونة الأمة العربية».
كان يرى نفسه ـ كما قال نصا: «أنا آخر البابوات العظام الذين قالوا لا للمحتل الأجنبى».
ورغم أن خليفته على الكرسى الباباوى عروبى التوجه منذ سنوات تكوينه الأولى، إلا أن زيارته للقدس للصلاة على أحد أساتذته أثارت قلقا عميقا سرعان ما تبدد بتأكيده أنه لا تراجع عن خط سلفه الكبير.
استنادا إلى شهادات رفاق دراسته الجامعية، فهو أطل على الحركة الطلابية المصرية فى السبعينيات عن قرب، واكتسب خبرة سياسية دعته تاليا إلى الوقوف فى صف ثورة «يناير».
ذلك يقربه من «نموذج شنودة»، غير أن تحديات عصره دفعته إلى خيارات جديدة ـ لا الراهب المنعزل ولا الزعيم الموجه.
قبل أن يبدأ مهامه الباباوية دهمته أزمة الجمعية التأسيسية لدستور (٢٠١٢) تزكيها المخاوف التى انتابت قطاعات واسعة من الأقباط بعد إمساك الجماعة بمقادير الأمور فى البلاد.
كان ذلك داعيا ـ وقتها ـ إلى ترجيح «الدور السياسى» للكنيسة المصرية، أو احتذاء تجربة البابا «شنودة»، التى يتداخل فيها «الروحى» مع «السياسى»، لا استعادة تجربة البابا «كيرلس» و«الروحى» ملمحها الرئيسى.
غير أنه ـ عكس تلك الترجيحات ـ لم يذهب إلى صدامات حادة، وراهن بدرجة ملحوظة على حماية الحركة العامة فى المجتمع بعد ثورة «يناير» فانسحب ممثلو الكنيسة من الجمعية التأسيسية مع آخر ممثلى القوى المدنية.
كان ذلك الرهان على حركة المجتمع العامة وقواها الفاعلة من الآثار الإيجابية المباشرة لثورة «يناير»، التى قدمت أيامها الأولى شهادة جديدة على قوة السبيكة الوطنية على نحو ذكر بتجربة ثورة (١٩١٩) فى وحدة «الهلال مع الصليب».
فضلا عن أن الكتلة الرئيسية من الأقباط شاركت فى «يناير»، وبعدها على نحو غير مسبوق من عقود طويلة كمواطنين، لا بأية صفة أخرى، لهم حق طلب التغيير السياسى والاجتماعى والانتقال إلى نظام جديد يلتحق بعصره ويستند على دولة القانون.
لم يكن ممكنا للجالس الجديد على الكرسى الباباوى أن يتجاهل الحقائق حوله، وأى كلام آخر يحمله بما لا يحتمل.
إن اعتكف فهو متهم بالانعزال عن أنين رعاياه، وإن أيد الدولة فهو متهم بالتفريط فيما يتعرضون له دون حماية كافية من قانون، وإن احتج فهو متهم بدفع البلاد إلى فتن أول ضحاياها الأقباط أنفسهم.
استعادة «كيرلس» مستحيلة واستعادة «شنودة» صعبة.
بين المستحيل والصعب وجد أمامه قطاعات متزايدة من الأقباط تعود إلى الكنائس طلبا للاطمئنان، بدلا من الطريق الذى سلكته بعد «يناير» و«يونيو» فى ثورة الميادين والارتباط بالحركة العامة للمجتمع.
هنا صلب الأزمة شبه المعلنة وشبه المكتومة التى تواجه البابا بعد أربع سنوات من تجليسه.
عندما تغلق القنوات السياسية فإن الحركة العامة للمجتمع تضعف ويبهت تأثيرها، ويصبح الكلام عن الفصل بين الدينى والسياسى محض أوهام سرعان ما تتبدد.
بقدر انفساح المجال العام تتأكد صلابة المجتمع وقدرته على مواجهة أزماته وفق قواعد دولة القانون.
لم يكن طبيعيا أن يتحول مقتل المواطن «مجدى مكين» شبه المعدم بأثر تعذيب بشع فى أحد أقسام الشرطة، إلى أزمة تكاد تعلن طائفيتها لمجرد أنه قبطى دون أن يكون الذين عذبوه تعنيهم هويته الدينية، إلا أن يكون المجال العام مسمما.
ولا هو طبيعى عدم فتح النقاش العام للأزمات المكتومة حتى يتسنى مواجهتها والبحث فى سبل تجنب أخطارها، وأى سبيل آخر يصعب تجنب عواقبه.
وهذه ليست مسئولية البابا.
نقلا عن الشروق.