تعلمنا من الحكايات القديمة أن مهرج الملك لا يمسه ضرر. خليط غريب من التفاهة والنبوغ، من الصفاقة وخفة الدم، من الحيلة والتملق، من الذكاء والاستهبال.
شخصية درامية وتاريخية بامتياز ألهمت العديد من الكتاب مثل وليام شكسبير وفيكتور هوجو وروبرت بن وارن، وأدخلتنا إلى عالم بهلول كل العصور والمهرجين الجدد.
ملابس مبهرجة وشخاليل، كثير من «التنطيط» والأكروبات والنكات والضحكات الشريرة المتقطعة والتنكيل بالأعداء من خلال السخرية.
هو يمثل جنون الملك الكامن أو المستتر الذى نعلق عليه كل الأفعال المشينة التى لا يمكن لحاكم أن يرتكبها ويفضل العامة أن ينسبوها إلى فساد الحاشية والمهرجين الذين يحيطون به، خوفا من أن يصدقوا أن من يقودهم فى مسيرة الحياة والسياسة يفقد عقله أحيانا، ويجمح مثلنا جميعا، بل ويحتاج لمساحة من الجنون والخطأ.
وهو ما يفسر المقولة الأبدية التى تتردد عبر العصور لطمأنة النفس: «هو حاكم جيد، لكن العيب فى المحيطين به»، دون التوقف عند دلالة تكرارها.
***
الدولة الأموية ومن بعدها العباسية عرفتا مهرجين اقترن اسمهم بالخليفة، فكانوا لا يفارقونه كظله، بل توارثهم الحكام الواحد تلو الآخر، وبزغ من بينهم «بهلول» أو أبو وهيب بن عمر الصيرفى الكوفى. كان هذا الأخير رجلا يدعى الجنون.
وفى يوم من الأيام مر به هارون الرشيد فوجده جالسا على مقبرة، فسأله: «يا بهلول يا مجنون متى تعقل؟»، فرد عليه:« يا هارون يا مجنون متى تعقل (...) أنا عاقل لأنى عرفت أن هذا زائل ــ وأشار إلى القصر ــ وأن هذا باق ــ فجلست بهذا قبل هذا، وأما أنت فإنك قد عمرت القصر وبعدت عن القبر الذى هو مصيرنا المحتوم، من منا إذا المجنون؟».
ومن وقتها وبهلول صار مهرج القصر الذى اشتهر بحكمته وفصاحته وتقواه، بخلاف آخرين مثل «أبو دلامة» مهرج القصر فى العصر الأموى الذى لم يمانع فعل أى شىء فى سبيل إرضاء الخليفة.
فى أوروبا ظهر أيضا مهرج الملك منذ القرن الحادى عشر تقريبا، وفى مرحلة لاحقة كانت هناك مدارس لتأهيلهم، فتصنع العته للإضحاك واكتساب حكمة الجنون يحتاجان إلى الكثير من الثقافة والمران وضبط الأداء، لكى يظل المهرج ملازما للملك مدى الحياة ويظل ملما بكواليس الحكم.
خلد مثلا فيكتور هوجو ذكرى تريبوليه، مهرج البلاط فى عهد لويس الثانى عشر وفرانسوا الأول، وذلك من خلال مسرحيته الكوميدية «الملك يلهو» التى قدمت لأول مرة عام 1832. المهرج الأحدب ذو العيون الضيقة والجبهة الواسعة لعب دورا هاما فى القرارات الملكية لفترة طويلة.
كان يسمح له بتجاوز الحدود والانتقاد والتلاعب والمناورة، وقد استفاد بالفعل من موقعه وقربه من دوائر الحكم. يبين هوجو فى المسرحية الوجه الآخر للمهرج، الإنسان والأب الذى يعشق ابنته، لكنه معبأ بالحقد والغضب والكراهية، بطل مضاد يخالف الأعراف وينجو بنفسه، فمهرج الملك لا يصيبه ضرر.
***
شخصيات كهذه مبهرة بتناقضاتها، بعضها عرف عنه أنه كان همزة الوصل بين الملك وشعبه، كان الصوت الذى لا يخمد ليذكر الملك من خلال نكاته وألعابه أنه لا دايم غير الله وأن للحقيقة وجوها كثيرة، كان مرآته المقعرة، أما البعض الآخر فكان على شاكلة العديد من المهرجين الجدد المتزايدين، يلبسون كل الأقنعة ويلونون وجوههم ابتغاء للرضا والسماح.
عندما تطالع هذه الوجوه فى الكتب التاريخية، بملابسهم الغريبة، تتصور بعض المعاصرين بالملابس والمساحيق نفسها. تتأكد أنها أدوار تتوارثها الأجيال.
تسقط بعض الوجوه على بعض الشخصيات التى تراها حاليا على الشاشات. لعبة مسلية وكاشفة، لو وجدت مساحة للصور للعبناها معًا.
نقلا عن الشروق.