قبل أيام دخلت في نقاش ساخن لمدة زادت على ساعة مع زميل عزيز، لديه تفكير مثالي يجعله يعتقد أن علاقات الدول تقوم على المبادئ وليس على المصالح. الزميل لا يزال يعتقد أن أوروبا وأمريكا والغرب عموما لا ينام الليل إلا إذا اطمأن على أن حقوق الإنسان مستقرة وآمنة في كل بلدان العالم، وأن العالم بأكمله نال حظه الوافر من حريات التعبير، وما فاض سيتم تخزينه للأيام الصعبة!.

لا ألوم هذا الزميل ويعلم الله أنني لا أسخر منه بالمرة، فهو مثالي في كل شيء، ويحلم ليل نهار أن يرى العالم بأكمله واحة من الأمن والأمان، لكن المعضلة أنه ليس بالأمنيات وحدها تحيا الأمم أو حتى الأفراد. والمعضلة الأكبر أن كثيرين يفكرون مثلما يفكر زميلي، ويعتقدون أن أوروبا وأمريكا سوف يأتون إلى مصر قريبا بالبوارج الحربية والطائرات الشبح ليوجهوا لها إنذارا بأن تقيم دولة الحق والعدل والقانون والمواطنة خلال سبعة أيام، وإلا نفذوا ذلك بأنفسهم!.

مثل هذا التفكير ليس جديدا، وموجود منذ فترة طويلة في مصر، خصوصا من بعض النخبة الليبرالية التي تضررت من ثورة يوليو ١٩٥٢، وبعضهم تمنى انتصار العدوان الثلاثي في أكتوبر ١٩٥٦ حتى يتم القضاء على ما اعتبروه وقتها انقلابا عسكريا، ويعودوا مرة أخرى للحكم.

لا نحتاج إلى أدلة للبرهنة على أن الغرب مثل الشرق يسعى وراء مصالحه فقط وليس مبادئه. لكن ــ وحتى نكون موضوعيين ــ الغرب يتمنى أن تكون الحرية والديمقراطية، والعلمانية موجودة ومتوافرة في كل العالم، خصوصا إذا كانت نسخة من أفكاره ومبادئه، وهو يطالب غالبية بلدان العالم الأخرى ليل نهار بإتباع مبادئ الحريات وحقوق الإنسان، لكن حجتي الجوهرية وأنا أناقش الزميل، أن كل هذا الكلام الجميل من الغرب يتبخر إذا تعارض مع مصالحه. ومن يعترض على كلامي، فليراجع علاقات أوروبا وأمريكا المزدهرة دوما مع بلدان الخليج العربي ومعظمها لا صلة لها بالديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات بالمفهوم الغربي. ومن لا يزال يحاجج فليراجع تاريخ العلاقات الأمريكية الغربية مع مستبدين تاريخيين مثل شاه إيران رضا بهلوي ومحمد ضياء الحق في باكستان وأوجستو بينوشيه في تشيلي وسائر طغاة أمريكا اللاتينية وإفريقيا في العصر الذهبي للاستبداد.

هل معنى ذلك أن الغرب لا يعرف الحريات وحقوق الإنسان؟!. بالطبع لا، هم لديهم درجة كبيرة من الديمقراطية والتقدم والازدهار، تحققت بفضل كفاح شعوبهم، لكن هذه البلدان ليست مشغولة بالدرجة التي نتخيلها بأن يكون لدينا نحن العرب والمسلمين نفس هذه الدرجة من الحرية والتقدم.

سوف يسأل سائل: وما الذي يدعوهم أن يكونوا مشغولين بنا؟! الإجابة لا شيء وبالتالي فالقضية أولا وأخيرا أن الذي سيحقق الحريات وحقوق الإنسان والتعددية شعوب هذه المنطقة، وليس أي طرف آخر سواء كان أمريكا أو أوروبا أو أي دولة أخرى.

بمقدار قوتنا وتطورنا وثقافتنا وإعلامنا وقيمنا ونظم تعليمنا وصحتنا وسائر مرافقنا، سوف نتقدم ووقتها سنكون قادرين على تطبيق معايير متقدمة من الحريات وحقوق الإنسان والتعددية. عندما يكون لدينا حكومات ديمقراطية وأحزاب ونقابات ومجتمع مدني فاعل ونخب مستنيرة وحقوقيون يؤمنون بحقوق الإنسان فعلا وليس فقط بالسبوبة، فسوف يكون لدينا حقوق إنسان حقيقية.

وإذا لم نفعل ذلك فلن يفيدنا الغرب ولا الشرق. النموذج الوحيد الحديث الذي حاولت أن تطبقه أمريكا وبريطانيا في مسألة الديمقراطية كان في العراق بعد غزوه عام ٢٠٠٣ والنتيجة أمامنا الآن وندفع ثمنها جميعا حتى هذه اللحظة. وبريطانيا التي تقول إنها مهد الديمقراطية اضطرت أن "تلحس" كل كلامها في صفقة اليمامة مع السعودية قبل سنوات، بل أن الحكومة عندهم تدخلت في عمل القضاء من أجل "المصالح البريطانية العليا".

تحقيق الديمقراطية وتطبيق حقوق الإنسان سيكون من الداخل وليس من الخارج.. والرهان على هذا الخارج فشل من قبل وسيفشل حتما في كل حين.

يفترض أننا نستحق الحريات وحقوق الإنسان لأننا بشر طبيعيون وليس لأن الغرب يريد لنا ذلك!!.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نقلا عن الشروق