تحليلات وآراء

حتى يمكن لمصر أن تتقدم وتخرج من كبوتها، فلابد لها من إعادة مأسسة العلاقات بين أحزابها ونقاباتها ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية ومجتمعها المدنى وبين مؤسستها العسكرية. هذه المأسسة ــ والتى تعنى إعادة رسم المعادلة بين المدنيين والعسكريين ــ كانت ضمن نقاط أخرى هى أهم ملامح التحول الديمقراطى والاستقرار السياسى النسبى فى دول شرق أوروبا وأمريكا اللاتينية وشرق وجنوب شرق آسيا منذ نهاية السبعينيات وحتى اللحظة.

هذه المأسسة كانت تعنى فى الكثير من الحالات ما يلى:

أولا: قدرة المؤسسة التشريعية على الرقابة على ميزانية المؤسسة العسكرية، وهو ما يعنى أن تكون ميزانية الأخيرة ضمن الموازنة العامة للدولة، وأن تتمكن اللجنة المختصة ــ عادة لجنة الدفاع والأمن القومى ــ من القيام بعملية الرقابة من خلال مراجعة حسابات المؤسسة وأوجه الصرف والإنفاق وهو ما يشمل مراجعة الصفقات والدعم الخارجى... إلخ.

ثانيا: قدرة رئيس الجمهورية ــ أو رئيس السلطة التنفيذية بشكل عام ــ على تعيين قادة المؤسسة وعزلهم، على ألا تكون هذه القدرة منفردة للرئيس منعا لأى تحزبات أو استئثار بالسلطة، ومن هنا فيكون من حق البرلمان مراجعة الرئيس فى هذه التعيينات عن طريق تأكيدها أو رفضها.

ثالثا: الرقابة القضائية، وهو ما يعنى أولا أن تنتهى سلطة المحاكم العسكرية على المدنيين، فلا يحاكم مدنى أمام أى محكمة عسكرية. ثانيا، أن تكون المحاكم العسكرية مقصورة على محاكمة العسكريين فيما يقع منهم من مخالفات أثناء تأدية الخدمة، وهو ما يعنى أنه لو تورط عسكرى فى مخالفة قانونية مدنية (كمخالفات إشارات المرور مثلا)، فإنه يحاكم مدنيا لا عسكريا. وهو ما يعنى ثالثا، أن تكون هناك محكمة ادعاء عليا للجيش من قضاة يتم تعيينهم بواسطة السلطتين التنفيذية والتشريعية معا، على أن يتمتعوا بحماية من العزل مدى الحياة أو حتى بلوغهم سن معينة وذلك للحفاظ على استقلاليتهم.

رابعا: الرقابة الشعبية، والتى تعنى حق الناس فى المعرفة عن طريق توفير البيانات والإحصاءات الخاصة بأنشطة المؤسسة العسكرية للصحفيين والباحثين والعامة إعمالا لمبادئ الشفافية وبما لا يتعارض مع أى حساسيات قد تراها المؤسسة بخصوص بعض هذه المعلومات والبيانات.

هل تبدو هذه النقاط نظرية وغير قابلة للتطبيق فى مصر؟

الحقيقة أن نفس هذه السؤال تكرر تقريبا فى كل تجارب التحول سالفة الذكر، وخصوصا فى تلك التجارب التى حدث فيها التحول بشكل تدريجى بين المدنيين والعسكريين دون تغيرات مفاجئة تكون عادة بأثمان مؤلمة للجميع. وكانت الإجابة أنه مادام أن هناك تفاوض فلابد من أمرين، الأول أن يكون هناك تنازلات متبادلة بما يحقق المصلحة الوطنية فى النهاية، والثانى أن يكون هناك فترة تحول متفق عليها لتنفيذ هذه المأسسة بشكل تدريجى، وهو ما قد يعنى:١ ــ اقتصار عملية المراقبة التفصيلية على لجان البرلمان المتخصصة، مع التأكيد على وحدة الميزانية، والمحاكمات الداخلية غير المعلنة لمن يثبت تورطه فى سوء استخدام الميزانية المخصصة للمؤسسة العسكرية عن طريق المحكمة العسكرية العليا أو عن طريق الاكتفاء بإيقاف الترقيات العسكرية أو العزل دون محاكمة... الخ.

٢ ــ السماح للمؤسسة العسكرية بالاستثمار فى بعض المجالات (البنية التحتية، الطاقة، القطاع الطبى) على أن تخضع تلك الأنشطة للرقابة من البرلمان فى مقابل حق المؤسسة فى الاستفادة من عوائدها كاملة بعد دفع الضرائب المستحقة للشعب.

٣ ــ عمل محاكم عسكرية مدنية مشتركة فى بعض الحالات النادرة التى قد يكون فيها المتهمون المدنيون متورطين فى قضايا تخص المؤسسة العسكرية بشكل مباشر.

٤ ــ تحديد نسبة معينة لا يمكن تجاوزها ــ بين الـ٢٠ والـ٣٠ فى المائة لتعيين العسكريين المتقاعدين فى المناصب التنفيذية على المستوى القومى أو المحلى، على أن تأتى الترشيحات لهذه المناصب من الأحزاب وغيرها من المؤسسات السياسية لا من المؤسسة العسكرية، وبشروط معينة منها أن يكون قد مر على تقاعد العسكرى مدة لا تقل عن خمس سنوات منذ تركه الخدمة.

٥ ــ السماح للمؤسسة العسكرية بإقامة مدارس وأكاديميات عسكرية على أن يكون من حق المدنيين التشارك فيها إدارة وتنفيذا ورقابة ــ كلٌ بحسب تخصصه ــ فى مقابل حق المؤسسة العسكرية فى التواصل مع المدنيين من خلال هذه المؤسسات لنشر العلوم العسكرية بين المدنيين الراغبين فى ذلك، مع فتح الباب فى الجامعات والمعاهد المدنية للعسكريين بشرط ألا يتمتع الطلاب العسكريون فى المعاهد والجامعات التعليمية المدنية بأى مميزات استثنائية.

٦ ــ حق العسكريين فى التصويت فى الانتخابات العامة، مع منعهم من ممارسة أى أنشطة سياسية أخرى (كالترشح للمناصب التشريعية أو التنفيذية أو عضوية الأحزاب) ماداموا فى الخدمة أو قبل مرور خمس سنوات على خروجهم منها.

٧ ــ العفو عن العسكريين المتورطين فى انتهاكات لحقوق الإنسان، مقابل إعلانهم عن هذه الانتهاكات بالتفصيل وجبر الضرر الذى وقع على الضحايا مع القبول بعزلهم من مناصبهم واعتزال الحياة السياسية والعامة فى مقابل ذلك.

هنا نأتى للسؤال الثانى: ما الذى يجبر أى مؤسسة عسكرية على الدخول فى مفاوضات مع المدنيين؟

الإجابة هنا من التاريخ كانت منحصرة تقريبا فى ثلاثة سيناريوهات، الأول هو بمبادرة رشيدة من المؤسسة العسكرية بعد التأكد عن طريق عملية التعلم الذاتى أن التصدى بشكل منفرد للأمور الاقتصادية والسياسية والأمنية يستنزف المؤسسة ويعرضها للنقد من قبل المدنيين ويقلل من وضعها الاستراتيجى فى مقابل المؤسسات الأخرى فى الدولة. أما السيناريو الثانى، فقد كان عن طريق حدوث كارثة أو انهيار مفاجئ أمنى، عسكرى، أو اقتصادى، يعيد من رسم توازنات القوى على الأرض فيقبل جميع الأطراف بالتفاوض كحل رشيد وأقل تكلفة من أى حلول أخرى. أما السيناريو الثالث والأخير، فيتمثل فى حدوث ثورات أو انقلابات أو تدخلات خارجية وهو سيناريو عادة غير مرغوب لأنه يقوِّض مؤسسات الدولة عن العمل ويفتح الباب للانتقامات المتبادلة بما يؤدى لانهيارات أكبر فى الدولة يدفع الجميع ثمنها من عسكريين ومدنيين.

ثم نأتى للسؤال الثالث والأخير: ألا ينتقص هذا من المؤسسة العسكرية وينال منها وهى المؤسسة المنوط بها حماية البلاد وترابها وسيادتها؟

الإجابة هى بالنفى، بل إن العكس تماما هو الصحيح، لأن استنزاف المؤسسة العسكرية فى الأمور السياسية والاقتصادية هو ما يقوِّض من قدرتها على القيام بأدوارها، ويفتح الباب على مصراعيه لتجار السياسة والاقتصاد والدين للتقرب منها للحصول على مكاسب مجتمعية وسياسية واقتصادية بأثمان بخسة بحيث لا يدفع الثمن الحقيقى فى النهاية سوى الوطن، وهو ما يعنى أن هذا النموذج يدعو لوحدة واستقلالية واحترافية المؤسسة العسكرية لا العكس!

***

هذه مقدمة لموضوع طويل يحتاج إلى نقاش وحوار موسع تكون المؤسسة العسكرية طرفا فيه. حوار قائم على الاحترام المتبادل والرغبة فى إعادة مأسسة السياسة فى مصر، وهو ما يعنى ضرورة توفر ثلاثة شروط قبل أن يبدأ، الأول هو قناعة داخلية لدى قادة المؤسسة بضرورة بدء مثل هذه الحوارات لمصلحة الجميع، والثانى هو توفير حد أدنى من الأمان لمن يدلى بدلوه فى هذه الموضوعات من المدنيين والابتعاد عن التهديد والتشويه المتعمد لمن يرغب فى تناول الموضوع بالتحليل والدراسة، وثالثا وأخيرا، أن يتوافر حد أدنى من القناعة الشعبية بأن الوقت قد حان لفتح الملفات المؤجلة دون تسويف يمكن أن يكلف الجميع أضعاف الأثمان التى من الوارد أن ندفعها الآن لو بدأنا!

هذا المقال منشور في صحيفة الشروق بتاريخ 18 سبتمبر 2016.

تعليقات الفيسبوك

التصميم والتطوير بواسطة WhaleSys