تحليلات وآراء

أقضى هذه الأيام أحلى الأوقات مستمتعا بمتابعة خطوات رحيل باراك أوباما من البيت الأبيض. أتابعها بروح رياضية وبموضوعية يقدر عليها بشر. أشمت حينا وأتعاطف حينا آخر، وفى حين ثالث أمتدح فى نفسى بعدا تميزت به قبل ثمانى سنوات ساعدنى على أن أتوقع للسيد أوباما خطوات ينهى بها رحلته الرئاسية يكاد يتطابق بعضها مع جوهر ما يمر به الآن.

***

منذ شهور وأنا أراقب ما يمكن ببعض التجاوز أن أطلق عليه هرولة لم نعتدها فى العلاقات بين الدول الكبرى، وأقصد هرولة الولايات المتحدة نحو روسيا لمساعدتها فى التخفف من أعباء وصعوبات موقف أو مشكلة فى مكان ما. المشكلة الأبرز واللافتة لنظر متخصصين فى شئون الشرق الأوسط والحرب الباردة والعلاقات الأمريكية الروسية هى سوريا. كان واضحا للكثيرين منا أن الرئيس أوباما رفض، أو عجز، عن اتخاذ موقف حاسم من الأزمة السورية منذ اندلاعها. تصور أن المشكلة كغيرها من كثير من مشكلات الشرق الأوسط قد تتحول إلى أزمة مزمنة من نوع الأزمة العراقية، أو ربما تصور أنها الفرصة الثمينة التى تتيح لأمريكا المساهمة فى إنهاك النظام السورى وجس نبض القوى الإسلامية التى تطرح نفسها بديلا هناك كما فى دول أخرى. كان الظن الأمريكى أنه طالما أمكن إبقاء القوات الأمريكية بعيدا عن النيران المتشابكة وطالما لم تتورط دول أوروبية واستمرت روسيا مراقبا فإن امريكا يمكنها أن تحافظ على مستوى من الصراع يرضى الأطراف المحلية ولا يتجاوزها.

أتت الرياح بما لا تشتهيه السفن. قال صديق من موسكو إنه ما كان يمكن لبوتين أن يرى سوريا فى هذا الوضع الجامد، ولكن المغرى، ولا يتدخل. حالة الحكم فى دمشق تغرى بالتدخل، تمدد تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق وشمال سوريا يثير الشك فى أن قوى خارجية أخرى لن تقف متفرجة طول الوقت، بدء مسلسل الأزمات فى تركيا كان بمثابة جرس إنذار يؤذن بنفاذ صبر إردوغان، فشل كل محاولات أمريكا إثارة نيران حرب بين القوى الاسلامية المتطرفة لصالح تنظيم القاعدة ودول خليجية أكد لروسيا احتمال أن تفقد قاعدتها فى طرطوس، إلى جانب كل هذه المغريات ظل الغياب الأمريكى يمثل لروسيا الإغراء الأعظم لملء الفراغ، وبخاصة بعد أن تبين أنه لا نظام الأسد ولا أى تحالف عربى جاهزا لتولى مقاليد وضع نهاية لهذه المشكلة. تدخلت روسيا وبوتين مدرك أن الخروج لن يكون ببساطة الدخول وأن الثمن الذى ستدفعه روسيا سيكون باهظا وبالتالى يتعين أن يكون العائد مرتفعا. ولن يكون العائد مرتفعا إلا إذا تعبت واشنطن فى كسب رضاء موسكو وتلبية بعض ما تستحقه من نفوذ فى سوريا وفى شكل الاتفاق النهائى وفى جوهره. هنا، وقد اقترب موعد رحيل أوباما ومعه موعد تخليه عن التزامات ومسئوليات لا تقوى عليها أى بطة عرجاء مثل الرئيس الأمريكى فى آخر ولايته، بدا مثيرا للغاية الإقبال الدبلوماسى المكثف على الدبلوماسية الروسيىة لاستعجال التوصل إلى اتفاق يجمد الأوضاع فى سوريا أو على الأقل يبرد الانفعالات. بدت واضحة أيضا حاجة إدارة أوباما إلى إنجاز فى السياسة الخارجية يخفف من وقع وآثار الهجوم الضارى الذى يشنه المرشح لمنصب الرئاسة دونالد ترامب على سياسة أوباما الخارجية وبخاصة ما وقع فى مشهد اللقاء مع القادة العسكريين، ووصفه حال القوات المسلحة الأمريكية بالكارثى.

***

قضينا شهورا عديدة فى انتظار أن نرى علامات تشير إلى أن الرئيس أوباما حقق إنجازا ولو بسيطا فى مبادرته الشهيرة بالتحول جهة الشرق. الرئيس لم يبذل هو أو إدارته جهودا خارقة لتسوية الأزمة الأوكرانية والخروج بحل ينقذ ماء وجه الغرب وحلف الأطلسى. من ناحية أخرى لم يبذل الرئيس أو إدارته جهدا لا خارقا ولا معتدلا لوقف زحف وتمدد تنظيم الدولة الاسلامية فى ليبيا، من ناحية ثالثة لم يحقق انجازا ملموسا فى العراق يعيده إلى حال هدوء واستقرار ويحول دون وقوعه فى يد إيران. من ناحية رابعة، لم يفلح فى إقناع جميع الأطراف بالموافقة على عقد اتفاقية التجارة الحرة بين الدول المطلة على المحيط الهادى، ومن ناحية خامسة، فشل فشلا ذريعا فى منع كوريا الشمالية من اجراء تجربة تفجير نووى جديد. بمعنى آخر لم يكن هناك حقيقة ما يشغل الرئيس أوباما وادارته عن تنفيذ مبادرة التحول نحو شرق آسيا والباسيفيكى، فيعيد إلى دول جنوب شرق آسيا الثقة فى أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تتخلى عنها وتسمح للصين بالتمدد بالنفوذ أو باستكمال بناء سلسلة الجزر الاصطناعية والقواعد البحرية فى بحر الصين الجنوبى.

توقف تنفيذ المبادرة التى كادت تكون فى وقت من الأوقات حجر الزاوية فى البناء الاستراتيجى للسياسة الخارجية الأمريكية فى عهد باراك أوباما. لذلك كان لا شك مؤلما لمعاونى الرئيس الأمريكى منظر المبعوثين الفلبينيين إلى بكين قبل انعقاد قمة العشرين ووصول الرئيس الأمريكى لها فى محاولة لبناء الثقة بين رئيس جديد فى مانيلا وحكومة الصين وتهدئة الخلافات على الجزر. كانت زيارة المبعوثين بمثابة رسالة من مانيلا إلى أمريكا سبقت الرئيس إلى القمة لتعلن أن الفلبين لا تثق فى أن أمريكا جادة فى إقامة تحالف قوى يحمى شعوب ودول جنوب شرق آسيا من أعمال قد تقوم بها الصين تهدد مصالح هذه الدول.

لتأكيد هذه الشكوك سارعت مانيلا بالرد على انتقادات أمريكية لارتكاب حكومة الرئيس دوترتى تجاوزات فى مطاردة تجار المخدرات ومدمنيها بتوجيه سباب عنيف لسفير أمريكا فى مانيلا وما هى إلا أيام وكان الرئيس الفلبينى يوجه لشخص الرئيس باراك أوباما السباب نفسه. أظن أنه لم يحدث فى تاريخ العلاقات الخارجية الأمريكية أن تعرض رئيس أمريكى إلى إهانة على هذه الدرجة من السوء. أتصور أنه ما كان رئيس مانيلا ليقدم على توجيه هذه الإهانة لرئيس الدولة الأعظم والحليف الأهم منذ أن كانت الفلبين مستعمرة أمريكية لولا أنه كان واثقا أومتخيلا أن الدولة الأعظم لا تتصرف كدولة أعظم أو أن الرئيس الأمريكى فقد الكثير من هيبته بين حكام دول جنوب شرقى آسيا، وأنه على كل حال على طريق الرحيل.

***

لا أعرف إن كان ما شاهدته خلال زيارة أوباما لعاصمة لاوس حقيقيا أم من صنع خيال متأثر بأحداث مسلسل الرحلة الأخيرة التى يقوم بها الرئيس أوباما قبل نهاية مدة ولايته الثانية. ظهر أوباما أمامى رجلا غير ذاك الرجل الذى رأيته متوقدا طاقة وهمة وأحلاما وهو يصعد درجات السلم الموصل إلى قاعة الاجتماعات فى جامعة القاهرة فى واحدة من أولى رحلاته خارج الولايات المتحدة.

المقال منشور على موقع بوابة الشروق

تعليقات الفيسبوك

التصميم والتطوير بواسطة WhaleSys