ترتبط الأعياد فى ذاكرة كل منا بالفرح والانطلاق، وتبقى مرحلتا الطفولة والصبا الأكثر استدعاء لأوقات البهجة والسرور، ففى تلك الفترة من العمر يكون الفرد متحررا من أية اعباء تكبل كاهله، أو تحد من حبه للمغامرة، وميله إلى التمرد على كل القوالب التى يحاول المحيطون فرضها عليه.
لا أعلم لماذا تستدعى ذاكرتى فى كل عيد مشاهد بعينها من صفحة يصعب نسيانها على ما يبدو، ففى كل عيد من أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضى، كانت المتعة التى لا يدانيها أية متعة الذهاب إلى السينما بعد جولة فى شوارع الإسكندرية، حيث كنت أعيش، وأظن أن ما تبقى عالقا فى الذهن من تلك الأيام الخوالى، هو ما قادنى قبل أيام إلى المرور على أشهر دور سينما الثغر، حيث لا تزال بعضها تلك صامدا فيما البعض الآخر أصبح نسيا منسيا.
كان النعاس يغالب أبواب محال شارع صفية زغلول، وأنا أجوس جنباته، فى هذا الوقت المبكر من اليوم، مبتدئا من مدخله الشمالى، مستدعيا سجل حياتى الذى شهد الشارع على قسط منه.
لفت نظرى اختفاء سينما الهمبرا، بعد أن تحولت إلى ما يشبه المخزن المهجور، وقفت أمام مكان، كان يوما حافلا بأنفاس عشاق الفن السابع، وهواة الأفلام الأجنبية، وخاصة أفلام الغرب الأمريكى، التى غرقت – ولا أزال – فى بحر هواها.. هنا شاهدت العديد من الأعمال الكلاسيكية، من بينها «الطيب والشرس والقبيح» لكلينت استوود، لى فان كليف، وإلاى والاك، ومن اخراج سرجيو ليون (إنتاج 1966).
البكاء على أطلال «الهمبرا» فتح الذاكرة على مصراعيها لاسترجاع مخزون دور العرض التى لعبت دورا فى تشكيل وعى أجيال من الاسكندرانية، فقد ترددنا على سينما ستراند، وريالتو اللتين لم يكن حظهما أفضل حالا من «الهمبرا» بفعل قسوة الأيام، لكن ما يعزى النفس نجاة سينمات مترو، أمير، ريو، ورويال، وفريال، من التهلكة، فلا تزال صامدة فى وجه غوائل السنين.
فى مترو كانت رقصات جون ترافولتا فى نهاية السبعينيات تلهب حماستنا، وهو يدور برشاقة وعنفوان، فى فيلم «حمى ليلة صيف» وفى صالة العرض ذاتها، شاهدت «صائد الغزلان ــ أو The deer Hunter»، الذى عالج المشاكل النفسية التى تنتاب بعض الجنود العائدين من الحروب، مثل الاكتئاب والانتحار، حيث نال صناعه خمس جوائز أوسكار عن أفضل الأفلام لعام 1978.
غير بعيد، وفى شارع فؤاد عند تقاطعه مع صفية زغلول، لا تزال سينما أمير بخير وعافية، فقد وقفنا فى طوابير أمام شباك تذاكرها عشرات المرات، وفى صالتها الفسيحة، وقعت فى غرام أداء النجم البارز عادل أدهم وهو يمارس عبقريته فى لعب دور الشرير فى فيلم «حافية على جسر الذهب» مع ميرفت أمين وحسين فهمى.
شريط الذكريات قادنى إلى سينما أوديون على شريط الترام بمحازاة محطة كامب شيزار فى منطقة الإبراهيمية، حيث كنا نحبس أنفاسنا ونحن نتابع الممثل العظيم أنتونى كوين، مع جريجورى بيك، وحشد من النجوم على مدى ساعتين ونصف الساعة، فى الرائعة الحربية الخالدة «مدافع نافارون»، التى تدور أحداثها خلال الحرب العالمية الثانية حيث تقوم مجموعة من الجنود الإنجليز بتدمير مدفعين عملاقين نصبهما الألمان فى إحدى الجزر اليونانية لمنع انزال للحلفاء.
عقب هذه الشطحات الذهنية مع عالمى السينمائى، جلست على مقهى السلطان حسين لأطلب كوبا من عصير المانجو، وأنا اتابع حركة الشارع متسائلا: هل وسط هؤلاء الغادين والرائحين من يتردد على دور سينما محطة الرمل وشارع صفية زغلول وأخواتها من دور العرض المنتشرة فى الإسكندرية، وخاصة فى الأعياد، بالحماس نفسه الذى كنا عليه ؟!
المقال منشور في صحيفة الشروق الاثنين 12 سبتمبر 2016.