سألت عددا من قدامى الزملاء عن تجارب ونصائح يرغب فى أن يسمعها منهم شبان استلموا حديثا وظائف فى أجهزة سيادية. حدث ما توقعت. طالبونى جميعا بأن أحدد بداية، إن استطعت، معنى كلمة سيادية.
أحدهم تحدى أن يكون بيننا، يقصد أبناء جيلى، من يستطيع أن يضع قائمة بالأجهزة الحكومية التى يمكن أن توصف بهذه الصفة. حاول زميل آخر تذكيرنا إن كنا نسينا بأنه على أيامنا، وهى ليست بعيدة جدا، لم تكن الدولة تستعمل هذه الصفة عنوانا لجهاز من أجهزتها.
تعلمنا فى المدرسة والبيت أن الدولة سيدة، سيدة بكل وقارها وجمالها وبكل رموزها ابتداء من عسكرى الدورية الممسك بعصاه صعودا حتى الملك أو الرئيس الممسك بصولجانه. رحنا، رغم قناعاتنا، نجتهد واتفقنا على أن يحاول كل منا وضع قائمة بالأجهزة التى يعرف أنها تطرح نفسها أهلا لهذه الصفة.
حاولنا فوضعنا القوائم واجتمعنا لنقارن ونكتشف أننا، وكنا خمسة، غير متفقين على عدد الأجهزة السيادية فى بلدنا المحبوب. تصادف على كل حال أن اثنين منا عملا فى فترة أو أخرى فى إدارة حكومية تحمل الآن صفة السيادية قررا أن يستجيبا لرغبة هؤلاء الشبان المعينين حديثا فى إدارة أو أخرى من إدارات الدولة.
***قال واحد، تذكرون أننى عينت بعد تخرجى بمدة وجيزة على درجة هى الأدنى وظيفيا بطبيعة الحال. فهمت خلال مرحلة التعرف على مهمة الإدارة التى عينت فيها أن السرية يجب أن تراعى بكل دقة. قيل لى بالوضوح الممكن إن البلد معرض لأخطار شديدة ومؤامرات أجنبية ولذلك الحرص واجب ولا بد من الامتناع كلية عن التحدث مع أجانب.
هنا ارتكبت أول خطأ. علقت ببراءة الشباب وسذاجة معدومى الخبرة قائلا.. بل نحن نعيش بين أجانب. كيف تطلب منى أن أمتنع عن الحديث مع بواب العمارة التى أسكن فيها وسائق الحافلة التى تقلنى من وإلى المكتب. أظن أننى دفعت ثمن هذا التعليق غاليا فى مرحلة متقدمة. قيل لى إننى ارتكبت خطأ جسيما فى حق مدرب الأمن، لأنه فى المسائل الأمنية التعليق كالمقاطعة بكل أنواعها تشويش على المدرب واستهتار بموقعه فى الإدارة.
ارتكبت الخطأ الثانى بعد شهور قليلة من ارتكابى الخطأ الأول. كنا فى اجتماع وكنت بحكم موقعى المتدنى أجلس فى مكان قصى من مائدة الاجتماع مكلفا بتسجيل المحضر. لم يبلغنى رئيس أو زميل خلال شهورى المبكرة أن من كان فى مثل درجتى وعمرى لا يحق له التدخل فى نقاش يدور بين القدامى.
تدخلت لأننى كنت وقتها، كالحال ببعضكم، ابن ثورة، وككل أبناء الثورات فى كل مكان وزمان يحق لى أن أقول ما أشاء ومتى أشاء فالثورة قامت من أجلى وليس من أجل هؤلاء الكبار القدامى. هكذا كنا نفكر مدفوعين كما قلت من قبل ببراءة الشباب وسذاجة معدومى أو قليلى الخبرة. تدخلت لأصحح لرئيس الاجتماع، وكان فى الوقت نفسه رئيس كل الإدارة، معلومة وردت فى كلامه.
كنت أنا الموظف الجديد الذى أعد له الدراسة التى يحكى عنها فى خطابه، ولكنه أخذ منها ما لم يأت فيها بل عكسه تماما. يبدو أننى غضبت. نسيت أن أطلب الإذن بالكلام وحين تكلمت بدا لكل الحاضرين أننى أتهم رئيسى بالكذب. كانت النتيجة إقصائى عن هذه الادارة ولم أقض فيها من العام إلا قليلا.
***رفع زميل قديم يده طالبا الكلمة. لم يطلب منى الكلمة، طلبها من الشبان وبعد دقائق معدودة كنا قد بدأنا نفهم الدافع الذى حفزه على تجاوز الأعراف والأصول.
قال إنه عندما صدر قرار تعيينه فى إدارة مهمة شعر أن بعض أحلى أيامه على وشك أن تتحقق. المستقبل بكل خياراته مفتوح أمامه. بل والحاضر أيضا. زملاء العمل من حوله، القدامى منهم قبل الجدد مقبلون ومرحبون، وبعد فترة قصيرة جدا من التعامل معهم شعر أنهم أيضا محبون. كيف حدث هذا فى شهور قليلة؟. أنجز ما يرضيه واعتاد سماع عبارات الإشادة والمديح. أحب ما يعمل، وأحب من يعمل معهم وبادلوه الحب.
أحب أيضا رئيسه وأحبه الرئيس. أحب الرئيس فيه صراحته وبراءة الشباب وسذاجة من يريد أن يتعلم. أحب فيه حبه لعمله. أحب أيضا طموحه الذى كان من نوع مختلف والرئيس خبير فى الطموح بكل ألوانه وأنواعه. راح يجرب الشاب المرة بعد الأخرى.
جربه فى القيادة وفى إدارة أزمات العمل وفى احترام حرمات الخصوصية. ولكن عندما حانت ساعة الفراق فاجأه بنصيحة صارخة.
قال له لا أرى فيك عيبا سوى أنك تتعامل مع زملائك القدامى والصغار وكأن لا يوجد بينهم حاسد أو كاره أو شرير. سمعتك مرة تقول إنك تحب كل العاملين بهذه الإدارة وأن كلهم بدون استثناء يحبونك أو أعربوا عن حبهم لك. خطأ كبير ترتكبه إذا لم تعتدل نظرتك هذه إلى الناس وزملائك بوجه خاص.
الإجماع، حتى فى الحب، معناه أن معارضين كتموا آراءهم وأنت الخاسر. معناه أيضا أن علاقات العمل تعرضت لاختراق النفاق بدرجة أو أخرى، وأنت الخاسر. معناه كذلك أن المنافسة الشريفة والضرورية لتسيير دولاب الإبداع فى العمل قد انحسرت. حذارِ من الإجماع على حب أو على كره. اترك مسافة للاختلاف تتنفس فيها وتبدع ويتنفس فيها الآخرون ويبدعون.
*** رحت أتأمل وعيناى تراقب وجوه الشبان. لمست استياءً عند واحد وخيبة أمل عند واحدة ولمحت التحدى فى عيون الآخرين.
المقال منشور على بوابة الشروق الثلاثاء 6 سبتمبر 2016.