هل هناك ضرورة حقيقية لبناء الكنائس بأقبية أو صلبان؟ أم أن هذه تفصيلة صغيرة ينبغى تجاوزها، فى إطار رؤية أشمل تركز على ضرورة التناغم بين المسلمين والأقباط، وتجنب ما يمكن أن يتسبب فى استفزاز الناس فى بلد غالبيته من المسلمين من أجل الحفاظ على التلاحم المطلوب بين عنصرى الأمة.
كان هذا واحدا من زوايا عديدة التى تطرق إليها النقاش بعدما قيل إن التعديلات على قانون بناء الكنائس، لا تقر بناء الأقبية أو وضع الصلبان خارج دور عبادة الأقباط.
حقيقة ما يحدث فى هذا القانون الذى تحول اسمه فى غفلة من الزمن من «قانون دور العبادة الموحد»، إلى «قانون بناء الكنائس» غامضة، وتفاصيل ما يجرى فيه تائهة. وبشكل مماثل لكل ما يجرى فى بر مصر تقريبا، تحول القانون إلى قضية أمن قومى، وتجرى مناقشته الآن فى سرية تامة، بعيدا عن الرأى العام.
ردود الفعل حول الموضوع فى تقديرى، أهم بكثير من تفصيلات القانون والتعديلات عليه. وجولة سريعة على الصفحات والمواقع التى أشارت إلى مسألة منع الأقبية والصلبان، كفيلة بتوضيح مدى تغلغل فكر التطرف والإقصاء فى المجتمع. فهناك شريحة واسعة شغلت نفسها بتبرير المنع استنادا إلى مبررات فقهية إسلامية. فالإسلام فى رأيهم ينفى صلب المسيح، وبالتالى تصبح الموافقة على رفع الصلبان شركا أو تأييدا للشرك. ومن الطبيعى فى رأيهم أن يحظر رفع الصلبان فى بلد تدين الغالبية فيه بدين الإسلام.
بديهى أن هذا الرأى يجافى المنطق لأن حرية العقيدة التى كفلها الإسلام تعنى قبول معتقدات الآخرين كما يرونها هم. ومن الصعب أن نفترض أن قبول الإسلام لحق الإنسان فى الاعتقاد، مشروط بالتنازل عن الاعتقاد ذاته، أو بتعديله بما يوافق «رأى الإسلام» فيه!!
أطرف ما فى الأمر وأكثره دلالة هو ما حدث من إقحام لثانى الخلفاء الراشدين فى المسألة. «المتشددون» و«المستنيرون» لجأوا إليه لبيان «موقف الإسلام الصحيح» كما يرونه، واستند الطرفان للغرابة، على «العهدة العمرية» أو ما دار حولها لتأكيد مواقفهم. إذ يروى أن عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، دخل كنيسة القيامة بعد انتصار المسلمين فى موقعة اليرموك، وبينما هو يملى على مسيحيى الشام عهده، حضرت الصلاة فدعاه بطريركها للصلاة فى الكنيسة، فرفض عمر وقال: أخشى إن صليت فيها أن يغلبكم المسلمون عليها ويقولوا هنا صلى أمير المؤمنين.
هذا الجزء من الحكاية هو الأكثر شهرة وشيوعا، أما نص العهدة العمرية ذاته فهو ما يستند إليه المتشددون فى رفض الصلبان وربما الكنائس ذاتها.
فشروط عهد عمر بن الخطاب مع مسيحيى الشام كما يرويها ابن قيم الجوزيه تفرض على المسيحيين شروطا كثيرة، يرى كثير من الرواة أن هدفها التحقير والتصغير، ومنها:
ألا يبنوا ديرا أو كنيسة أو صومعة، وألا يجددوا ما خرب منها، وأن يقوموا للمسلمين من مجالسهم إن أرادوا الجلوس، وألا يركبوا سرجا، وأن يحلقوا رءوسهم بطريقة معينة، وألا يظهروا صليبا ولا شيئا من كتبهم فى طرق المسلمين، وألا يضربوا بالناقوس إلا ضربا خفيفا، ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة فى كنائسهم فى حضرة المسلمين.
وتكثر الروايات فى كتب التراث حول العهدة العمرية. وهناك من يرون أنها كانت عهدا اقترحه المسيحيون، ليأخذوا به الأمان من عمر. فكتبوه وفرضوا على أنفسهم فيه ما فرضوا، ثم أرسلوا به إلى خليفة المسلمين ليتكرم بإقراره، وهو ما يصعب قبوله عقلا ومنطقا.
القول الفصل عن الشروط العمرية، عند معتدلى الإسلاميين ومتشدديهم، هو أن «الأئمة تلقوها بالقبول، وذكروها فى كتبهم، واحتجوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفى كتبهم، وقد أنفذها بعده الخلفاء، وعملوا بموجبها».
ما هو «الموقف الإسلامى الصحيح» إذن؟ وأى عمر بن الخطاب ينبغى لنا أن نتبع؟ من صلى خارج كنيسة القيامة، أم من كتب العهدة على النصارى بغرض تصغيرهم؟
كتب التراث كما نعرف تحفل بالشىء وبنقيضه، وفى تصورى أن حل هذا الإشكال فى يد الأزهر، وأنه لا يكمن فى «البحث عن الحقيقة» ولكن فى اتخاذ موقف معاصر من الحياة وتحدياتها.. ولهذا حديث آخر.
* المقال منشور في صحيفة الشروق يوم الأحد 28 أغسطس 2016.