في إحدى التظاهرات التي نظمها مؤيدون للرئيس عبد الفتاح السيسي، جلس أحدهم ووضع فوق رأسه بيادة عسكرية، بينما كتبت سيدة تحب الرئيس على تويتر تقول إن "السيسي قاتل بس إحنا عبيد البيادة ومبسوطين بيها".
لم يعد هناك أي منطق في تأييد الرئيس سوى العناد.
العناد قد يقف عند الخطاب الكيدي بمنطق "هو سيئ ولكننا نحبه"، ولكنه غالبًا يؤدي إلى الكذب لأن العنيد أيضًا معنيّ بإثبات صحة موقفه.
مع تفاقم أزمة الدولار، نشرت إحدى الصفحات التي تؤيد الشرطة المصرية على فيس بوك أن دول مجلس التعاون الخليجي –باستثناء قطر بطبيعة الحال- أصدرت قرارًا يلزم العاملين المصريين بتحويل نصف رواتبهم إلى مصر بالدولار الأمريكي لحل أزمة تناقص الاحتياطي النقدي الأجنبي والارتفاع المجنون لسعر الدولار في السوق الموازية.
الآلاف صدقوا هذا الخبر المضحك وقدّموا الشكر لدول الخليج، وشعروا بالفخر لأن هذه الدول تتخذ القرارات التي تساعد مصر على تجاوز أزمتها وتقدم الدعم للرئيس المحبوب.
أيضًا هناك من يؤيد الرئيس لأنه يعتقد أن الولايات المتحدة تجري مفاوضات مع مصر، من أجل الإفراج عن قائد الأسطول الأمريكي السادس الذي تقول أسطورة شهيرة إن الجيش المصري أسره عندما كان يحاول غزو مصر بعد الإطاحة بمرسي في 2013.
في يوم افتتاح التفريعة الجديدة لقناة السويس العام الماضي، انتشرت على فيس بوك صورة لمسرح على الطراز الكلاسيكي الأوروبي كتب من نشرها أن هذه دار أوبرا السويس بعد ترميمها خصيصًا من أجل إقامة حفل بعد افتتاح التفريعة يحضره السيسي وضيوفه، مع عبارات تتحدث عن الدولة المصرية العريقة التي تحترم الفن في مقابل جماعة الإخوان المسلمين التي تحتقره.
بعملية بحث سريعة حول هذه الصورة، تبيّن أنها لأحد المسارح في فرنسا.
تكررت هذه الظاهرة كثيراً بنشر معلومات يعرف من نشرها أنها مغلوطة، ويتداولها مؤيدو الرئيس على نطاق واسع فتتحول إلى أسباب معقولة لتأييد النظام الحاكم.
صفحات تأييد الرئيس على الإنترنت تنشر الكثير من التصريحات الكاذبة كتلك التي تزعم أن إسماعيل هنية هدد بتدمير الجيش المصري في ست ساعات (نحن مهددون) أو التي تدعي أن رئيس الوزراء البريطاني أدلى بتصريحات تحتقر حقوق الإنسان (الكل مثلنا لا يراعي حقوق الإنسان).
عندما يكون للنظام الحاكم منطق متماسك فلن يلجأ أنصاره للكذب وهم يدافعون عن سياساته، وبمفهوم المخالفة فإن انتشار الكذب يعكس غياب المنطق فهو المؤدي إلى العناد والعناد أول طريق الكذب.
لماذا لا يمنح النظام الحاكم في مصر أسبابًا منطقية لتأييده فتجنّب أنصاره الانزلاق إلى العناد؟
**
بعد حادث إسقاط الطائرة الروسية في سيناء العام الماضي، كان السيسي يتحدث في مؤتمر صحفي مع رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون. أكد الرئيس المصري في هذا المؤتمر أن مصر تتفهم الإجراءات التي اتخذتها بريطانيا لحماية مواطنيها ووعد بتعاون السلطات الأمنية في مصر في التحقيقات الخاصة بحادث سقوط الطائرة، وفي تأمين الموانئ الجوية بشكل عام.
كان الإجراء الذي اتخذته بريطانيا، هو وقف الملاحة الجوية إلى شرم الشيخ والغردقة.
بينما كان السيسي في لندن يتفهم دوافع الإجراء البريطاني، كان أنصاره على تويتر بصدد إعلان الحرب على بريطانيا لأنها تتآمر على مصر من أجل إسقاط السيسي.
هل يتفهم الرئيس إجراءات تآمرية تهدف لإسقاطه؟ أم أن مؤيديه أصيبوا بجنون العظمة وعقد الاضطهاد؟
أنصار الرئيس يستيقظون اليوم ليسبّوا الصحفيين والمحامين والأطباء، وإيران وقطر والولايات المتحدة والإسلاميين وحماس وأوروبا.
أنصار السيسي لا يحبون سوى الجيش والشرطة والسعودية.
عندما حاول أنصار الرئيس الدفاع عن اتفاقية ترسيم الحدود الأخيرة مع السعودية -والتي بموجبها تنازلت مصر عن سيادتها على جزيرتي تيران وصنافير- وقعوا في مأزق.
من يدافع عن تنازل مصر عن جزيرتيها من منطلق حق السعودية التاريخي في الجزيرتين، يستند إلى وثائق "قيل له" عنها ولم يرها بعينيه، ولكن آلاف الوثائق المتاحة التي تثبت مصرية تيران وصنافير تدحض هذه الحجة.
مع تراكم الوثائق التي تؤكد الحق التاريخي لمصر، ننتقل إلى المنطق الاستراتيجي بأن وضع الجزيرتين تحت سيادة السعودية يخرجهما من إطار اتفاقية السلام المصرية مع إسرائيل، وبالتالي يمكن لمصر أن تنشر فيهما سلاحًا ثقيلًا باتفاق منفصل مع السعودية، ولا يحق لإسرائيل الاعتراض لأن الجزيرتين في هذا الوضع ستكونان خارج نطاق المنطقة (جـ) التي يحظر على مصر بموجب اتفاقية السلام أن تنشر فيها أسلحة ثقيلة أو جنودًا عسكريين باستثناء فرق حرس الحدود بسلاح خفيف.
ولكن السعودية أغلقت الباب أمام هذه الحجة أيضًا، عندما أعلنت أنها أبلغت إسرائيل من خلال مصر كوسيط أن التزامات مصر الواردة في معاهدة السلام انتقلت إليها وأنها عازمة على الالتزام بها. وكذلك أكدت إسرائيل.
بعد هذا المأزق، قالت إحدى مؤيدات السيسي -وهي ترفع علم السعودية بميدان التحرير- إنها تقر بأن الجزيرتين مصريتان ولكن طالما طلبهما الملك سلمان "ميغلوش عليه"، ثم سبّت معارضي الرئيس.
ويبقى السؤال نفسه، لماذا لا يمنح النظام الحاكم في مصر أسبابًا منطقية لتأييده فتجنّب أنصاره الانزلاق إلى العناد؟
**
أثناء حديث السيسي بمناسبة بدء موسم حصاد القمح هتف أحد الحضور "أنت زعيم العالم والعرب والأجانب".
السياسة في مصر انحدرت والخطاب السياسي انتقل من التدليل على أن مصر بحاجة إلى مؤسسات قوية ترسخ مفاهيم الدولة الحديثة بدلًا من ثقافة الحاكم الفرد، إلى محاولة إقناع أحدهم أن عبد الفتاح السيسي هو رئيس جمهورية مصر العربية لمدة رئاسية تمتد أربع سنوات، وليس زعيم أكثر من 7 مليارات شخص حول العالم.
محاولة طرح أسئلة منطقية في مصر –فضلًا عن تقديم الإجابات- بات أمرًا محفوفًا بالمخاطر.
لا توجد أي أرضية مشتركة لحوار حول أي قضية خلافية يتطلب حسمها حوارًا مجتمعيًا، مع أشخاص يصدقون أن قائد الأسطول الأمريكي السادس محتجز في مصر أو يعتقدون أن كل العالم يتآمر على مصر أو يرون في عبد الفتاح السيسي زعيم كوكب الأرض.
المجال السياسي لم ينغلق فقط بالقمع، ولكن أيضًا بطرح الأسئلة الخاطئة.
كان محمد البرادعي رقمًا مهما في معادلة السياسة المصرية بين عامي 2010 و2013، وقد أثار جدلًا وقدم برامج ولعب أدوارًا واتخذ مواقف يمكن النقاش حولها.
ولكن في مصر ما زالت طائفة من الناس تحاول إقناع طائفة أخرى أن محمد البرادعي لم يكن سببًا في احتلال العراق عام 2003، عندما كان رئيسًا للوكالة الدولية للطاقة الذرية.
أكذوبة أخرى ما زلنا عالقين فيها منذ سنوات.
التأييد منزوع المنطق لا يجب أن يطمئن الرئيس من حوله، لأن التأييد بلا منطق كالفقاعة الفارغة لا يستند إلى أي أساس صلب.
هل يطمئن نظام حاكم وأنصاره إما امرأة تضع البيادة على رأسها، أو أكاديمي مرموق قرر في غضون عامين الانزلاق إلى اللاشيء وترك أبحاثه في التاريخ وتفرّغ لدراسة الاشمئناط على فيس بوك، أو صحفي رزين تفاقم قلقه فبات أقرب إلى المعارضين؟
عندما كان الإخوان المسلمين في السلطة ارتكبوا الخطأ عينه. ظلوا يُغرقون الناس في أكاذيبهم حتى أغرقتهم.
في 2012، قرر 13 مليون مصري وضع اسم محمد مرسي في صندوق الاقتراع رئيسًا لمصر.
أنصار مرسي كانوا أيضًا يؤيدونه بشكل مطلق. ففي نوفمبر 2012، تظاهروا تأييدًا لقرارات أعلنت رئاسة الجمهورية أنها سوف تصدر بعد قليل ولم يكن أحد يعلم ما محتواها. ولكن أنصار مرسي هتفوا "الشعب يؤيد قرارات الرئيس".
أيضًا كان تأييدًا بلا منطق.
فقاعة التأييد منزوع المنطق انفجرت بعد عام واحد من حصول مرسي على ثقة 13 مليون مصري، عندما تظاهر أضعافهم ضده في الشوارع من أجل إسقاطه.
اليوم مرسي في السجن، ومن بقي من أنصاره يستحضرهم المصريون فقط من أجل السخرية وترديد عبارات مثل "الزمالك قادم ومرسي راجع".
ألا يمكننا أن نتجنب تكرار مصير الآخرين؟