أعتقد أنه قد حان الوقت كى تعترف الحكومة أن حل المشكلة الاقتصادية فى مصر، وبالأخص أزمة العملة الخانقة، أكبر من قدراتها، وأن المسألة الرئيسية هى القدرة على إدارة هذه الأزمة بأقل تكلفة اجتماعية واقتصادية ممكنة على الغالبية من المصريين. وليس هذا قدحا فى أداء الحكومة، على كل التحفظات عليه والتى هى فى محلها، ولا هو دعوة لاستبدالها بأخرى لأن هذا لن يغير من الوضع الكثير بقدر ما إنه نظرة للقيود الموضوعية التى يواجهها الاقتصاد المصرى اليوم، والمتمثلة فى اختلالات هيكلية موروثة منذ عهد مبارك «عجز فى الموازنة وفى الميزان التجارى واعتمادية فى التصدير وجذب رءوس الأموال الأجنبية على قطاع الطاقة وعلى قطاعات متذبذبة مثل السياحة» تحولت مع سنوات الاضطراب السياسى المحلى والإقليمى منذ ٢٠١١ إلى أزمات ضاغطة وملحة خاصة مع تآكل الاحتياطى الدولارى وانخفاضه بأكثر من النصف «من ٣٥ مليار دولار فى يناير ٢٠١١ إلى نحو ١٦ فى يونيو ٢٠١٦» على الرغم من المساعدات الخليجية الهائلة، والمقدرة بنحو ٣٠ مليار دولار فى ثلاث سنوات.
***
وقعت الأزمات السياسية والاقتصادية والمالية التى عانت منها مصر فى السنوات الخمس الماضية على خلفية أزمة تواجه الاقتصاد العالمى منذ الانهيار المالى فى ديسمبر ٢٠٠٨، ولا تزال هذه الأزمة مستمرة بصور شتى كان آخرها التباطؤ الاقتصادى فى الصين «وهى القاطرة التى أنقذت العالم من الركود بعد ٢٠٠٨» وكساد فى الاتحاد الأوروبى وسط مخاطر تهدد مستقبله السياسى ككيان موحد، وانهيار فى أسعار البترول العالمية، واضطراب سياسى وعسكرى فى المنطقة طال شرره السياحة فى مصر عدة مرات، ومن غير المرجح ولا المحتمل أن يشهد الاقتصاد المصرى تعافيا وأن يستعيد معدلات النمو المرتفعة وأن يعيد بناء احتياطياته الدولارية بينما الاقتصادان العالمى والإقليمى فى حالة تباطؤ بل ومنتظر أن يظلا كذلك لسنتين مقبلتين على أقل تقدير طبقا لصندوق النقد الدولى، ويعنى هذا أن حل الأزمة الاقتصادية، والتى تطل علينا بالأساس فى صورة نقص شديد فى العملة الأجنبية ما أفضى إلى شلل فى العديد من القطاعات الصناعية والخدمية، وعجز عام عن توليد معدلات نمو ووظائف. حل هذه الأزمة ليس مطروحا على المستوى الوطنى، وأن كل ما فى وسع الحكومة هو إيجاد سبل لإدارة هذه الأزمة ـ على أمل أن تمر على المستوى العالمى بأقل تكلفة اجتماعية واقتصادية ممكنة.
ولعل أول ما يجب فعله هو الاعتراف بأن هناك أزمة، وأنها أكبر من إمكانيات الحكومة والبنك المركزى، وتوجيه النقاش العام. وليس فحسب بين الخبراء الذين لا يظهر أنهم يقومون بعمل موفق حتى الآن نحو إدارة الأزمة بأقل الخسائر لحين ميسرة. والأولويات التى سيتم وضعها هنا هى سياسية فى المقام الأول وليست فنية أو مالية، لأنها تقتضى اختيار الشرائح الاجتماعية التى سيتم تحميلها الخسائر الناجمة عن استمرار الأزمة والأخرى التى سيتم تخصيص الموارد المحدودة للتخفيف عنها، وهو ما يلزم أكثر من أى وقت مضى تسييس النقاش حول إدارة الأزمة الاقتصادية بدلا من السعى كل السعى لحظر النشر عنه أو لمنع البرلمان من مناقشته أو مصادرة حق الإعلام بما فى ذلك السوشيال ميديا فى هذا، وذلك لأن ما تحتاجه الحكومة فى هذه المرحلة هو إشراك أكبر عدد ممكن من القوى السياسية والمجتمعية، وبناء توافق لدى الرأى العام حول الإجراءات والسياسات التى سيتم اتخاذها بدلا من صناعتها فى غرف مغلقة ثم البحث عن مروجين لها أو عن طرق لفرضها كأمر واقع فيما بعد.
***
لا أعتقد أن هناك خلافا كبيرا حول الأولوية فى إدارة الأزمة الحالية، خاصة التقهقر اليومى للجنيه أمام الدولار، وهى التقليل قدر الإمكان من الأثر السلبى على مستويات معيشة الغالبية من المصريين، خاصة أن نصفهم تقريبا يعيشون إما قريبا من خط الفقر أو دونه، وينفقون الجزء الأكبر من دخولهم على الأساسيات مثل الطعام والطاقة، خاصة أن مصر بلد مستورد صافى للطاقة والغذاء، وهو ما يعنى أن السياسة الحكومية ينبغى أن تتجه إلى الاستمرار فى دعم الغذاء وربما حتى التوسع فيه، وألا تؤدى إجراءات تخفيض دعم الطاقة إلى الإضرار بأصحاب الدخول المنخفضة، وفى جميع الأحوال هم من أقل المستفيدين من دعم الطاقة ولكنهم سيكونون أشد المتضررين حال إزالته دون مراعاة أحوالهم.
وسيتعين كذلك فى إطار إدارة الأزمة تحديد أى قطاعات اقتصادية سيتم تفضيلها ـ بتوفير النقد الأجنبى لها فى صورة مدخلات إنتاج. وأى قطاعات ستترك لتعانى، وهو أمر ينبغى أن يتبع استراتيجية معلنة من جانب الحكومة، وأن يحدث هذا بالاتفاق حتى مع ممثلى هذه القطاعات من خلال اتحاد الصناعات والغرف التجارية، باعتباره ناجما عن عدم توفر العملة الصعبة، وعن الحاجة لتخفيض الواردات لحين تحسن مؤشرات القطاعات الخارجية المولدة للدولار مثل السياحة والتصدير، ويمكن اعتبار هذه بمثابة استراتيجية طارئة للتعامل مع الأزمة، بشكل يقوم على المصارحة والمشاركة. وقد يكون التفضيل مبنيا على معايير كالأهمية الاستراتيجية لقطاع ما «مثلا الأنشطة الاستخراجية وتوليد الكهرباء» أو على كثافة العمالة ومن ثم الأمان الوظيفى للملايين من العاملين. وهذه كلها على سبيل المثال لا الحصر.
***
عانت مصر منذ ٢٠١١ من غياب أية إدارة سياسية للأزمات الاقتصادية بل ترك الأمر للخبراء والفنيين المستقلين، والذين على كفاءتهم وحسن نواياهم قد استنفدوا قدرتهم فى الوقت الحالى، ما يعنى أن إدارة الأزمة فى المرحلة المقبلة ستتطلب معالجة سياسية بغية بناء توافق «وهذا غير تهيئة الرأى العام لتقبل قرارات تتخذ بمعزل عنه وبعدم علمه» وبهدف وضع أولويات منطقية تخدم الغالبية وبالتالى تتوخى الصالح العام.
* المقال منشور في صحيفة الشروق يوم الخميس 18 أغسطس 2016.