أستطيع أن أفهم قرار رفع الدعم جزئيًا عن الكهرباء وفقًا لشرائح الاستهلاك توطئة لرفعه كليًا من باب تخفيف عجز الموازنة والالتزام بشروط قرض صندوق النقد الدولي التي استبقتها الحكومة وضمّنتها بصورة شبه كاملة في برنامج محليّ التجميع حصل على موافقة مجلس النوّاب. كذلك أستطيع أن أفهم تزامن هذا الإجراء مع ضغوط كثيرة تؤثر بالسلب على مستويات معيشة المواطنين، وتجعلهم فريسة لارتفاع الأسعار بصورة جنونية على خلفية انفلات سعر صرف الدولار، وتراجع مصادر النقد الأجنبي المختلفة، وقرارات رفع التعريفة الجمركية على كثير من الواردات، والشروع في تطبيق ضريبة القيمة المضافة، وغياب برنامج اقتصادي وطني شامل قابل للتطبيق. لكنني لا أفهم اللجوء الدائم إلى القرارات الصعبة والأدوية المرة قبل استنفاد البدائل الأقل صعوبة والأخفّ مرارة!
مناط صعوبة تلك القرارات ليس مقدار المشقة التى يلقى بها على أكتاف الوزراء والتنفيذيين، ولكن ما تنوء بحمله كواهل الأسر المصرية الصابرة ووحدات الإنتاج النادرة التى مازالت تعمل فى ظل تلك الظروف سابقة الذكر. خرج علينا وزير الكهرباء والطاقة بأسعار جديدة للاستهلاك مرجعًا هذه الأسعار إلى عوامل فى مقدمتها أزمة سعر صرف الدولار! ورغم أنى لست فى معرض الحديث عن أسباب تلك الأزمة ولا العلاقة السببية بينها وبين إنتاج الكهرباء، ورغم اندهاشى من إسقاط كلمة الوزير للعلاقة المفترضة بين تراجع أسعار النفط عالميًا وضرورة انعكاس ذلك على أسعار الكهرباء المنتجة بمحطات تعمل بالسولار والغاز، فلا يجوز أن يدفع المواطن ضريبة الأخطاء الحكومية مرتين، فيصبر على أزمة الدولار وتداعياتها ثم يعاقب حكوميًا بقرارات زيادة الأسعار، خاصة أن ما يحدث الآن لا يمكن أن يعد تحريرًا للسعر السوقى للكهرباء ولا يجوز لنا معرفة هذا السعر التوازنى فى غيبة المنافسة، ولا ينبغى للحكومة المحتكرة للإنتاج أن تحدّثنا عن أسعار أقل من سعر التكلفة خاصة إذا كنا نشك فى كفاءة تقدير هذه التكلفة.
بالتأكيد من حقنا أن نتساءل عن كفاءة إدارة مرفق الكهرباء ماليًا وإداريًا، وعلم الاقتصاد يشك فى كفاءة أى منتج يعمل منفردًا وبغير أدنى منافسة، ويشك فى كفاءة أى مشروع اقتصادى تديره الدولة عوضًا عن القطاع الخاص الذى يحرص أصحابه على المال الخاص أكثر من حرص الموظف العام على المال العام أو على ما تملكه الدولة ملكية خاصة.
***
الوزارة إذن ترفع الدعم عن أسعار الكهرباء، لكنها تحمّل الشعب فى المقابل فاتورة الرواتب التى تدفعها شركة الكهرباء لكثير من العناصر غير المنتجة، وفاتورة هدر وتبديد الموارد الناتج عن سرقة التيار الكهربائى بغير رقابة أو محاسبة مناسبة، وفاتورة هدر الطاقة الضائعة فى أعمدة الإنارة المضاءة نهارًا، وفاتورة سرقة الكابلات النحاسية الأرضية بشكل ممنهج، وفاتورة استبدال الكابلات النحاسية بأخرى من «الفايبر» لمنع سرقتها، وفاتورة إتلاف وقطع هذه الكابلات الأخيرة بفعل وحدات حكومية أخرى تنبش فى الأرض بغير خرائط ولا أدلة لإقامة مشروعات أو إصلاح مرافق، وفاتورة تدمير أبراج الكهرباء وعدم مراقبتها، وفاتورة تكلفة الفرصة البديلة أو الضائعة التى كان من الممكن اغتنامها بتطبيق أحدث أدوات إدارة المخاطر المؤسسية عند إنتاج وتوزيع هذا المنتج الحيوى.. كثيرة هى الفواتير التى ندفعها بتكلفة من المؤكد أنها تتجاوز قيمة الدعم الذى تقدّمه الدولة والذى كان حتى وقت قريب لا يتجاوز 20 مليار جنيه ثم اكتشفنا أنه قفز إلى ما يقرب من 30 مليارًا بالتزامن مع تراجع أسعار الوقود عالميًا!لا أطالب بخصخصة إنتاج الكهرباء، ولا أريد أن يسلّمنا محتكر عام إلى محتكر خاص، لكننى أطالب بفتح باب المنافسة فى هذا القطاع.
أطالب بتسهيل قيام الشركات الخاصة بإنتاج وتوزيع الكهرباء بمختلف أشكالها، سواء تلك التى يتم إنتاجها بمصادر الطاقة المتجددة من الرياح والطاقة الشمسية والمساقط المائية، أو تلك التى تنتج بمصادر تقليدية للطاقة وتمثّل ما يزيد على 96% من الكهرباء المنتجة حاليًا. القطاع الخاص لا يتوسّع فى توظيف عمالة زائدة على سبيل المجاملة والمحسوبية لأنه يتحمّل فى ذلك الكثير، ولا يترك أمواله نهبًا بغير ضوابط ورقابة، ولا يحصل على دعم من الدولة يضمن له الاستمرار مع الفشل.. القطاع الخاص لا يمكنه أن يمارس الجشع فى ظل تعدد المنافسين، وفى ظل الرقابة الحكومية لمنع الممارسات الاحتكارية وحماية المستهلك وتنظيم مرفق الكهرباء كما يوجد جهاز لتنظيم مرفق الاتصالات (سواء اتفقنا أو اختلفنا على فعالية هذا الجهاز فالحكم عليه يجب ألا يتقيّد بشكل إدارته الحالية).
***
تحرير الكهرباء لا يكون بتحرير أسعارها من دعم لا نعلم على وجه الدقة إلى من يذهب، هل يذهب إلى المستهلك فعلًا، أو هو دعم للرواتب والمكافآت وتراجع الكفاءة ولو نسبيا؟!. تحرير الكهرباء يكون بتحرير إنتاجها وتوزيعها من الاحتكار الحكومى وفتح باب المنافسة للمال الخاص الذى يمكنه أن يبدع وأن يستحدث بل وأن يستورد من الأدوات ما يخفّض كثيرًا من تكلفة إنتاج وتوزيع الكهرباء. فى السابق كانت الدولة أى دولة تتكفّل بإقامة جميع المشروعات المرتبطة بالمرافق نظرًا لعزوف المال الخاص عن المخاطرة فى إقامتها وتشغيلها لارتفاع تكلفتها وانخفاض عوائدها. لكن المشاركة بين القطاعين العام والخاص قد اتخذت اليوم صورًا مبتكرة، ودخل المال الخاص فى تمويل وتشغيل العديد من المرافق، وقد أشرت فى مقال سابق إلى الخطة القومية لمشروعات البنية الأساسية ببريطانيا للفترة من 2016ــ2021 والتى بلغ نصيب المال الخاص فى مشروعات الطاقة بها 95%!.
مشروعات إنتاج الطاقة بخلاف الطرق والأنفاق يمكن إقامتها وتشغيلها بدون مشاركة الدولة، ولمصر تجربة ناجحة فى توزيع الغاز الطبيعى عبر شركات خاصة خاضعة لرقابة الهيئة العامة للبترول، ويمكن أن تعمل تلك النماذج وغيرها بصورة أفضل لو أن مستويات الرقابة المختلفة قصد منها مصلحة المستهلك النهائى وليس الجباية والتحصيل لمصروفات ورسوم تدخل من جديد فى هيئات ومصالح تفتقر إلى الكفاءة.
***
التحوّل من دعم السلع والخدمات إلى الدعم النقدى يمكن أن يقضى على تشوّهات الأسعار بالفعل، ويمكن أن يوفّر آلية أكثر عدلًا لوصول الدعم إلى مستحقيه بفرض توافر المعلومات اللازمة، لكنه يضيف ضغوطًا تضخمية يجب أن توضع فى الحسبان، إذ عادة ما يتم التهامه بالكامل بفعل تلك الضغوط، حينها يخضع المواطن لخداع النقود فيرتفع دخله مثلا بمائة جنيه شهريًا لكن ارتفاع الأسعار وحده يرغمه على إنفاق أكثر من ضعف هذا المبلغ كل شهر.الحديث أيضًا عن إعفاء محدودى الدخل من تداعيات قرارات الحكومة الأخيرة يفتقر إلى الواقعية، فالطبقة المتوسطة هى أكثر الطبقات تضررًا من ارتفاع الأسعار وهى موصّل جيّد للأعباء، إذ يمكن من خلالها تمرير أية أعباء إضافية إلى الطبقات الأدنى، وإذ يضيق المقال بشرح الأهمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للطبقة المتوسطة العليا والدنيا، فإنه يكفى التأكيد على كونها الأكثر إنفاقًا على مصارف التنمية البشرية كنسبة من دخلها، والأكثر اهتمامًا بتوفير أسباب الرفاهة والعيش داخل البلاد، حيث لا تمتلك خططًا بديلة للقفز من سفينة الوطن والخروج بالأموال عند اشتداد الأزمات، بل إنها تحرص على السياحة الداخلية لارتفاع تكلفة السياحة الخارجية، وتعمل على توفير فرص للعمل فى الوظائف المعاونة يشغلها محدودو الدخل، وهى الوظائف التى يتم الاستغناء عنها عند زيادة الصدمات السعرية التى تتعرّض لها الدخول بانتظام. لا يمكن أن تنسحب تلك الخصائص على الطبقة الرقيقة أعلى الهرم السكانى والتى يبدو أنها أقل كثيرًا من عشر السكان وفقًا لقراءة متعمّقة فى بحث الدخل والإنفاق للأسر المصرية لعام 2015 الذى صدر ملخصه مؤخرًا عن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء.
***
الدعوة إلى تحرير إنتاج وتوزيع الطاقة تصطدم بعقبات حكومية كثيرة تسبب أحدها مؤخرًا فى اعتزام تحالف لإنتاج الطاقة الشمسية الانسحاب من السوق على أثر تمسك الوزارة بشرط التحكيم المحلى فى المنازعات ورفض التحكيم الدولى رغم عدم الاعتراض عليه بادئ الرأى، ورغم وجود جهات تمويل أجنبية فى المشروع، مضيعًا فرصة استثمارية قيمتها 100 مليون دولار على مصر!. الأمثلة كثيرة على وأد فرص الاستثمار فى مختلف القطاعات، ومطالبة الشعب بتحمّل أعباء الاقتصاد قبل أن تحمل الحكومة نصيبها من تلك الأعباء ضربًا من المستحيل.
* المقال منشور في صحيفة الشروق يوم الثلاثاء 16 أغسطس 2016.