قد لا يكون هناك اعتراض مبدئى على الاقتراض من الخارج ولا على التعامل مع صندوق النقد الدولى، ولكن حتما هناك تحفظات على حجم التمويل الذى تسعى إليه الحكومة كما جاء على لسان وزير ماليتها «٢١ مليار دولار على ثلاث سنوات»، وعلى أوجه الإنفاق التى ستذهب إليها هذه القروض نتيجة مخاوف حقيقية من عدم قدرة الاقتصاد المصرى على خدمتها عندما تستحق فى السنوات القليلة القادمة.
يعانى الاقتصاد المصرى من فجوة تمويلية دولارية تقدر بنحو ٨ إلى ١٠ مليارات دولار سنويا هى مجموع ما يحتاجه الاقتصاد لتمويل التزاماته الخارجية ووارداته، والتى لا يولدها الاقتصاد فى ظل تراجع معدلات النمو، خاصة القطاعات المولدة للعملة الصعبة مثل التصدير وقناة السويس والسياحة وضعف الاستثمارات الأجنبية، وقد جرى سد هذه الفجوة بين ٢٠١٣ و٢٠١٥ من خلال تدفقات لمعونات وودائع وتسهيلات من بلدان الخليج العربى قدرت بنحو ٢٣ مليار دولار، ولكن نظرا لعدم قدرة الحكومة وقتها على إتخاذ أى إجراءات فعالة لإعادة هيكلة مالية الدولة أو لإعادة إطلاق معدلات النمو، فقد ذهبت هذه الأموال الطائلة حرفيا فى بلاعة تمويل الواردات، ونجحت بشكل مؤقت للغاية فى بناء الاحتياطيات الدولارية، ولكن حالما توقفت فى مطلع ٢٠١٥ عادت الاحتياطيات لما كانت عليه عند ديسمبر ٢٠١٢ «نحو ١٥ مليار دولار أى بما يغطى ثلاثة أشهر فقط من الواردات مقارنة بـ٣٥ مليار فى يناير ٢٠١١ بما كان يغطى تسعة أشهر».
حاولت الحكومة مع مؤتمر شرم الشيخ فى مارس ٢٠١٥، جذب تدفقات رأسمالية دولارية ضخمة من خلال الاستثمارات المباشرة، والتى كان يؤمل أن تسهم فى علاج العجز فى ميزان المدفوعات، وفى إعادة بناء الاحتياطى النقدى الأجنبى، وفى الوقت ذاته تدعم جهود رفع معدلات النمو والتشغيل، وتمكن الحكومة من تخفيض العجز فى الموازنة دون آثار انكماشية كبيرة على الاقتصاد، ولكن الظروف العالمية والإقليمية والمحلية تآلفت على الحيلولة دون تحقيق أية انفراجة تذكر فى هذا الملف، ودخلت البلاد طيلة السنة الماضية فى أزمة نقص الدولار بما خنق من فرص التعافى، وأصبح يضع ضغوطا هو نفسه على استعادة النمو، ودفع الاقتصاد إلى حالة قريبة من الركود التضخمى، حيث ترتفع الأسعار فى ظل نمو ضعيف. والآن تطرق الحكومة الباب الثالث لتحقيق هذا التدفق، وهو الاقتراض من الخارج.
***
قد يكون من المبكر الحديث عن تفاصيل الاتفاق مع صندوق النقد الدولى وما سيحمله من شروط تقشفية كخفض الدعم ورفع الضرائب أو عن حجم التمويل تحديدا، ولكن يبدو أن المخطط الحكومى هو سد الفجوة التمويلية السنوية فى السنوات القليلة القادمة من خلال الاقتراض الخارجى من مؤسسات مالية عالمية كالصندوق والبنك الدوليين وربما اللجوء بعد هذا لطرح سندات دولارية بالاعتماد على ما سيحدثه الاتفاق مع هذه المؤسسات من تخفيض فى تكلفة الاقتراض ومخاطره، وستذهب هذه الأموال المقترضة لسد العجز فى الموازنة أى تمويل جهود إعادة هيكلة مالية الدولة، تبعا لتصريحات مسئولين مصريين، وفى ظل هيكل الإنفاق الحالى فإن المصروفات كلها تقريبا جارية وليست استثمارية، أى من غير المرجح أن تولد عائدا فى المستقبل يفى بخدمة الديون هذه عند استحقاقها، وفى المقابل فإن الرهان الحكومى هو على تحسين أوضاع الاقتصاد الكلى ومؤشراته، وإيجاد حل ــ مؤقت بالطبع لأزمة العملة، والحصول على ما يسميه المسئولون «شهادة ثقة» من صندوق النقد على أمل جذب الاستثمارات الأجنبية ورفع معدلات النمو بما يمكن من خدمة ما عليها من ديون خارجية.
وهذا الرهان ينطوى على مخاطر بالغة الارتفاع خاصة فى ظل الأوضاع الاقتصادية العالمية التى تظهر مؤشرات واضحة للانكماش ما يعنى أن فرص نمو الاقتصاد المصرى بمعدلات مرتفعة ضعيفة سواء من خلال التصدير «مع الركود فى منطقة اليورو أكبر شريك تجارى لمصر» أو بجذب رءوس أموال «فى ظل تركز الاستثمارات الأجنبية فى مصر فى قطاعى البترول والغاز واللذين تضررا كثيرا من انخفاض الأسعار العالمية منذ ٢٠١٤» ومع ارتباط السياحة بالظروف الأمنية المحلية والإقليمية بالغة التوتر، ولذا قد لا يكون من المناسب أن تستهدف الحكومة تمويلا خارجيا ضخما لإطلاق النمو الاقتصادى خاصة أن الاقتصاد المصرى ليس لديه قطاع صادرات صناعى أو خدمى قوى يمكن التعويل عليه لتحقيق التدفق الدولارى اللازم فى حال استعادة النمو لخدمة الديون الخارجية، وهو النموذج الذى اعتمدت عليه تركيا منذ ٢٠٠٢، ونجح جزئيا، فعلى الرغم من ضخامة الديون الخارجية «نحو ٦٠٪ من الناتج القومى الإجمالى مقارنة بـ١٤٪ فى مصر» إلا أن قطاع الصادرات التركى الصناعى مع السياحة قد نجحا فى توليد ما يكفى لخدمة هذه الديون، والتى هى فى أغلبها ديون قطاع خاص «نحو ثلثى الإجمالى»، أما فى مصر فهذا من غير المرجح حدوثه فى ظل استمرار الاعتماد على الصناعات الاستخراجية.
***
ما البديل إذن؟ ستقوم الحكومة بتطبيق إجراءات تقشفية فى جميع الأحوال، وسيكون لهذه آثار اقتصادية واجتماعية مؤلمة تترجم التدهور الاقتصادى منذ ٢٠١١، ولكن سعى الحكومة للاستفادة من هذه الإجراءات عن طريق الاقتراض من الخارج هو رهان فى غير محله، لأنه سيعرض البلاد لا فحسب لآلام التقشف والانكماش، إنما سيخاطر بأن تواجه البلاد بعد عدة سنوات دينا خارجيا بالغ الضخامة تئن تحت ثقل خدمته دون أن يحقق نموا مستداما، فالأفضل أن يتم تجنب الاقتراض من أجل تمويل الاستهلاك، وأن يكون فى المقابل التركيز على بناء اتفاقات سياسية لتحمل إجراءات تخفيض العجز «ربما حتى باتفاق مع صندوق النقد ولكن بدون مبالغ الاقتراض الضخمة»، على أساس أن السياق الاقتصادى العالمى هو فترة تخفيف التكلفة الاجتماعية للتباطؤ وليس فترة إطلاق النمو والتوسع.
* المقال منشور في صحيفة الشروق في عددها الصادر اليوم الخميس 4 أغسطس 2016