تحليلات وآراء

يقبع أقباط مصر الآن أسرى للصراع بين ثلاث دوائر يريد كل منها فرض منطقها عليهم. وللأسف يخضع الأقباط طوال الوقت لقواعد لعب ليست من اختيارهم فيستجيبون للابتزازات ويسلِّمون للضغوط.

أزمة الأقباط فى مصر هى جزء كبير من أزمة المواطنة بشكل عام، حيث يفقد الكثير من المواطنين المصريين الحد الأدنى من حقوقهم وحرياتهم مرغمين تحت دعاوى الاستثناء والمؤامرة والوطنية، وفى قلب هذه الأزمة يعانى الأقباط بشكل مضاعف لكونهم مواطنين مصريين أولا ويدينون بديانة مخالفة لديانة الأغلبية ثانيا.

على مستوى كونهم مواطنين مصريين، يعانى الأقباط من كل ما يعانى منه المواطنون المصريون، فالحقوق مهدرة والحريات مقيدة والطموحات محدودة. قد يبدو الأمر طبيعيا فى ظل دولة تعانى بشدة اقتصاديا ومن ثم تتضاءل فرص العيش الكريم لشعبها، لكن الأمر فى مصر يبدو أكبر من ذلك، حيث تغيب السياسة لصالح الأمن، ويُرهن رغيف العيش بالحرية، وتسكت النخب أو حتى تشترك فى هذه المعادلة لتحقيق مصالحها الضيقة.

أما على مستوى كونهم أقباطا فيعانون من هيمنة خطاب وسياسات ثلاثة فاعلين رئيسيين:

الإسلاميون: حيث يعانى الأقباط كثيرا من الخطاب العام الإسلامى الذى تغول على حقوقهم، وعمد إلى تهميش ذواتهم ونعتهم بما ليس فيهم، فتم اعتبار الأقباط صفرا على هامش الأمة؛ يعاملون كذميين لا كمواطنين لهم نفس الحقوق والحريات. فمنذ ما عرف بالصحوة الإسلامية فى العالم العربى، يعانى غير المسلمين عموما وأقباط مصر خصوصا من خطاب تحريضى طائفى بامتياز.

وعلى الرغم من أن بعض الأصوات الإسلامية العاقلة حاولت بالفعل الدفاع عن حق غير المسلمين فإن الخطاب الإسلامى العام تمكن من الانتصار؛ بدءا من الخطاب الشعبوى الذى يحرض عليهم فى خطب الجمعة وفى فتاوى المساجد والزوايا وصولا إلى الخطاب المتطرف الذى يسمح بقتلهم وسبى نسائهم، مرورا بالخطاب «الوسطى» الذى يقول معسول الكلام ولكنه وقت الجد ينحاز طائفيا وخصوصا إذا ما تعلق الأمر بأمور مثل الجزية أو الردة أو حرية ممارسة الشعائر فضلا عن حق الترشح للمناصب المهمة!

بسبب هذا الخطاب فقد تولدت قناعات شعبية إسلامية غير متسامحة مع الأقباط، تصورات غير عقلانية عن العلاقة بين آباء الكنيسة والسيدات المسيحيات، أو عن أن الكنائس والصلبان «تُنجس» المكان الذى تبنى فيه، أو عن محاولة الفتيات المسيحيات بتعليمات من الكنيسة إفساد صيام المسلمين فى نهار رمضان، فضلا عن كم هائل من «النكت» التى تقال جهارا على المعتقدات المسيحية!

الدولة: بالإضافة إلى هذا الخطاب الإسلامى غير المتسامح فى مجمله فإن خطاب الدولة وسياساتها غير متسامحة أيضا، وتتعامل مع الأقباط باعتبارهم أقلية طائفية متماسكة يمكن تأميمها بسهولة. منذ بدء الجمهورية على الأقل تتعمد أنظمة الحكم المتعاقبة أن تتعامل مع الأقباط من خلال وسيط، هذا الوسيط هو الكنيسة المصرية بكل تأكيد.

حرص كل رءوس الدولة على التمتع بعلاقات طيبة مع البابا لا مع المسيحيين، ظل هذا هو النمط السائد عبر أكثر من ٦ عقود ربما لم يشذ عليه سوى السادات فى العام الأخير من حكمه ومرسى فى العام الوحيد لحكمه، لكن علاقة البابا بالرئاسة لم تنعكس أبدا بالإيجاب على أحوال المسيحيين فى العموم، بل ظلت علاقة خاصة بين الرئاسة والكنيسة باعتبار أن الأخيرة أداة سلطوية لتأميم الوعى العام للمسيحيين، وبهذا تحققت رغبات الكنيسة لا رغبات عموم الأقباط! ظلت مشكلات بناء الكنائس وحقوق وحريات الأقباط مهدرة عبر كل هذه السنوات وسط مشاهدة ومباركة أو صمت من الجميع!

الكنيسة: ثم يقع الأقباط فى النهاية ضحية للكنيسة والتى تحولت من كيان روحى إلى مؤسسة سياسية تلعب أدوارا سلطوية بامتياز فتعمق أزمات «شعبها» بشكل أكبر. فى كل حادثة طائفية يتم دعوة البابا لمقابلة السلطة وكأن الطائفية ستنتهى بهذا اللقاء! فى كل حدث سياسى لا يدخر البابا جهدا ليلقى برأيه والذى يتحول من مجرد رأى إلى رسالة سماوية مقدسة على عموم المسيحيين الالتزام بها وتنفيذها! بل أن الكنيسة كانت ومازالت جزء لا يتجزأ مما يعرف بالجلسات العرفية والتى تتحول إلى وسيلة لتفريغ مشكلات الأقباط من مضمونها وتسويف الحلول وتحول الجانى إلى ضحية!

وهكذا يقع أقباط مصر دائما كضحايا للطائفية المدعومة من الخطاب الإسلامى. بما فيه الخطاب الوسطى المتسامح. وللتأميم من قبل أجهزة الدولة وبيد الكنيسة! هنا يكون السؤال المتكرر دائما ما الحل؟

الحل، يبدأ من عند الدولة، من عند النظام الحاكم، إرادة سياسية تصمم على كسر حاجز الطائفية والتأميم وتنتصر بالقانون والدستور لحقوق كل المواطنين الأقباط بلا تمييز. مطلوب من الدولة أن تصدر قانونا موحدا لدور العبادة وليس فقط لبناء الكنائس، قانون ينظم عملية بناء أى مصلى لعبادة الله، سواء كان مسجدا أو كنيسة أو غير ذلك.

مطلوب من الدولة ثانيا أن تنهى الهزل المسمى بالجلسات العرفية، لا عرف مادام هناك قانون، على الدولة أن تحمى الأقباط من أى هجمات عشوائية تتعرض لها منازلهم أو كنائسهم، أن تتوقف عن عملية التهجير القسرى والعقاب الجماعى الذى يعامل الأقباط كقطيع أو كطائفة وليس كمواطنين لهم كل الحقوق والحريات.

ثم على الدولة ثالثا أن تطبق القانون على أى شخص يقوم بالتحريض كتابة أو خطابا أو فعلا ضد الأقباط، وعلى الدولة أخيرا أن تقوم بتمكين كل مواطنيها من كل المناصب مهما كانت حساسيتها ومسئولياتها. نريد أن نرى محافظين ووزراء ومسئولين شرطيين وآمنين من غير المسلمين، نريد أن نرى قبطيا رئيسا للوزراء أو حتى رئيسا، الدولة هى المسئول الأول عن عملية التمكين وإنهاء عبثية الطائفية والتأميم.

الحل أيضا فى وعى المواطنين، مسلمين وغير مسلمين، وعى يقر بالتعددية، يقر بالمواطنة، يقر بتغير الأزمنة والأمكنة، وعى يقر بأن مفهوما الدولة والمواطن تغيرا كثيرا عما كان الوضع عليه قبل قرن واحد مضى فما بالنا بأربعة عشر قرنا! وعى يرفض الإشاعات الكاذبة، وعى يقر بأن الكنيسة بالنسبة للمسيحى هى كالمسجد بالنسبة للمسلم، مكان للصلاة والتطهر لا للنجاسة، أن قصة «الصليب» ورمزيته هى قصة خلافية لم يشهدها أحد ممن يعيشون فى عصرنا الحالى وبالتالى فالإيمان أو الكفر بها هى خيارات عقائدية يجب أن تكون حرة، وعى يتفهم أن طبيعة الله فى الإسلام غير طبيعته فى المسيحية وأن هذه أمور إيمانية غيبية قائمة على القناعات الروحية لا على المساجلات والمناظرات المادية، وعى يقر بأن المساحة التى تتخطى فيها الكنيسة الدور الروحى إلى الدور السياسى هى نفسها المساحة التى تخصم من حقوق المواطنة للأقباط لأنها تلعب دور الوسيط الذمى بين الدولة والأتباع!

***

الحل أخيرا بأن نضع جميعا، شعبا ودولة، علماء الدين ورجاله والمتحدثين باسمه فى حجمهم الطبيعى، فى مساحتهم الصحيحة، وهى مساحة الوعظ والتبشير والتواصل الروحى لا مساحة صنع القرار أو الوساطة، إمام المسجد أو كاهن الكنيسة من المنظور المدنى هم أشخاص عاديون، مواطنون تُقيم وطنيتهم بمدى الالتزام بالقانون والدستور، تُحسب إنسانيتهم بمقدار رقيهم الحضارى، ويصنفون علميا بمقدار تبحرهم فى العلوم المدنية كما العلوم الشرعية أو الدينية، قد يفقهون فى الدين لا فى العلم، وإن فقهوا فى العلم فهذا يتوقف على مقدار ما نهلوا منه، لبس العمامة أو الصليب لا يعنى أفضلية مدنية، وبالتالى فالجميع يجب أن يكونوا متساوين ماداموا قد نزلوا للساحة المدنية.

مشكلة الأقباط هى جزء من مشكلة المواطنة، والأخيرة هى جزء من مشكلة الحقوق والحريات فى مصر، ولا مجال لحل كل ذلك إلا بإصلاحات سياسية جذرية وحالة، فمتى نرى ذلك؟

* المقال منشور في صحيفة الشروق في عددها الصادر اليوم الأحد 31 يوليو 2016

 

تعليقات الفيسبوك

التصميم والتطوير بواسطة WhaleSys