البيوت الآمنة هي مجرد مثال لغياب شبكة للاستجابة لاحتياجات الناجيات من العنف، أو إدارة الخدمات الموجودة بالفعل من منظور أبوي.
ربما إذا تفحصنا أيا من الأماكن الأخرى التي تتعامل مع الناجيات سواء مصلحة الطب الشرعي، أو المستشفيات، أو وحدة مكافحة العنف ضد المرأة بوزارة الداخلية، سنرى نفس أنواع "العنف" غير المباشر التي قد تمارسها البيوت الآمنة على النساء، والتي لا تجعل العنف ضد النساء ينتهي بمجرد النجاة بحياتهن.
جميع أشكال القهر الأبوي تتعرى في لحظة اتخاذ الناجية قرار ترك المنزل سواء قررت العودة فيما بعد أم لا، بدءاً من اكتشاف الكثير من الناجيات اعتمادهن الاقتصادي الكامل على شخص آخر (الزوج، الأب..)، مروراً برفض الأهل في بعض الأحيان ترك بناتهن لبيوت أزواجهن، وصولاً إلى الأماكن التي من المفترض أن تستجيب إلى الناجية مثل البيت الآمن، أو حتى القضاء الذي قليلاً ما ينصفهن.
لا أستطيع مثلاً أن أتخيل شعور الناجية التي قررت مقاضاة زوجها لطعنه لها بالمطواة تسع مرات عند سماع حكم القاضي عليه بستة أشهرفقط لأنه كان "يؤدب" زوجته. في أي من تلك المراحل بالتحديد تتوقف ممارسة العنف ضد الناجية؟
يتهمنا البعض أحياناً -كنسويات- بالمبالغة فيما تتعرض له النساء في مصر أو يجادلون أن العنف ضد المرأة موجود في العالم كله وليس حصراً في مصر أو منطقتنا الشرق أوسطية.
بالطبع، العنف ضد المرأة موجود بجميع أشكاله -خاصة في المجال الخاص- في جميع دول العالم حتى "المتقدم" منها، والاستماع إلى قصص النساء اللاتي تلجأن للبيوت الآمنة في أماكن متفرقة من العالم يبرهن أن هناك الكثير من أشكال العنف الفجة والتي تصل إلى درجة التعذيب تمارس ضد النساء في بيوتهن أينما كانوا.
لكن المسألة ليست فقط في وجود العنف في حد ذاته، وليست المشكلة الأهم أو الأعمق في أعداده التي لا تتفوق فيها على مصر الكثير من الدول (خاصة في المجال العام).
لم أر المشكلة- والتي تبدو بديهية- بهذا الوضوح إلا من خلال كتابة بحث البيوت الآمنة، وهي تحديداً في عدم اعتبار العنف ضد المرأة "جريمة" من قبل الدولة أو المجتمع. فالعنف ضد المرأة ظاهرة موجودة في كل مكان إنما الفرق هو إلى أي مدى نعتبرها جريمة؟ وبالتالي إلى أي مدى نتعامل مع الناجية كناجية من جريمة عنف لا كامرأة غاضبة من زوجها؟ وعلى هذا الأساس، هل تعاقب الدولة مرتكبي العنف ضد المرأة كمجرمين؟
ليس المؤلم أن من طعن زوجته حكم عليه بستة أشهر، المؤلم أنه حكم عليه بستة أشهر لاعتباره كان "يؤدب" زوجته.
على نفس المنوال، فعقوبات الاغتصاب و"هتك العرض" رادعة وتصل إلى المؤبد، إنما المشكلة هي في اختزال المادة 267 من قانون العقوبات تعريف الاغتصاب في "الإيلاء الجزئي أو الكلي"، أما غير ذلك من أنواع الاغتصاب (الفموي، الشرجي) فتعرف "كهتك عرض"، ذلك بالإضافة إلى إشكالية مصطلح هتك العرض نفسه وارتباطه "بالشرف" و"العار"..ناهيك عن عدم وجود قانون يجرم العنف الأسري من الأساس.
كلها مفاهيم ترسخ لأن القانون لا يعتبر الاعتداء على أجساد النساء جريمة في حد ذاته. فالقانون لا يحمي أجساد النساء، إنما يحمي شرف الرجال.
لا يمكن عزل البيوت الآمنة أو أي خدمة أخرى تقدم للمعنفات كخدمة مستقلة بذاتها، ولا يمكن فصل ذلك كله عن السياقات التشريعية والسياسية والقانونية والمجتمعية الأوسع وعن رؤيتنا للعنف وتطبيعنا معه، وعن عدم اعتباره أولوية يجب مكافحتها.. لا من قبل الدولة ولا فاعلين سياسيين آخرين.
نتمسك كثيراً كنسويات بمصطلح "الناجيات" من العنف بدلا من "الضحايا"، فنحن نريدهن ناجيات لا ضحايا، ولكن بغض النظر عما نريد، بات لدي تساؤل حقيقي حول إمكانية نجاة الكثيرمن المعنفات في مصر.
أصبحت أدرك أن حلمي ليس ألا تتعرض الناجية للعنف ولكن، فعلاً، أن تنجو منه.. أن تكون هناك سبل للنجاة من العنف في مصر. كنت أحياناً أتساءل عن الأسباب التي تدفع بعض النساء لقبول العنف الذي يتعرضن له، وكنت ألومهن سراً، أو أشعر أنهن يخذلونني ويخذلن أنفسهن.. لكنني أصبحت أدرك أيضاً أن ثمن مواجهة العنف ليس أقل فداحة من ثمن قبوله.