لعل أحد أهم الملفات التى تسببت فى علاقة متوترة بين النظام الحاكم وبين قوى المعارضة فى مصر هو ملف الحقوق والحريات. كما أن أحد أكثر المواضيع التى ساهمت فى عدم الاستقرار السياسى فى مصر منذ الثالث من يوليو عام ٢٠١٣ هو ملف أوضاع السجون وأماكن الاحتجاز المصرية حيث تسبب تدهور حال الأخيرة فى مواجهات مستمرة بين النظام ومعارضيه، فضلا عن أن نفس هذا الملف قد تسبب فى حرج دولى لمصر تصاعد أخيرا بعد قضية الطالب الإيطالى جوليو ريجينى، والذى تسبب فى مواجهات بين مصر والاتحاد الأوروبى ومازالت فصول القضية لم تنته فى ظل تصعيد إيطالى ردا على طريقة التعامل المصرية فى تحقيقات القضية.
***
مرَّ الملف الحقوقى فى مصر بعدة منعطفات، فبعد فترة من التصعيد الخطير ضد المدافعين عن الحقوق والحريات اشتمل على تشويه متعمد للعاملين فى المجال الحقوقى واتهامهم بالعمالة والخيانة فى جو هستيرى مشحون، وبين تبرير الانتهاكات بدعوى «الظروف الاستثنائية» أو إنكارها تماما واتهام من يتصدى للموضوع بإثارة القلاقل والسعى لهدم استقرار البلاد، كان هناك بعض الجهود التى بُذلت رغم الإقرار بعدم كفايتها ـ وساهمت فى بعض الأمل، مثل بعض قرارات الإفراج عن المعتقلين من الشباب بمناسبة الأعياد أو نتيجة لبعض المبادرات المجتمعية بالتعاون مع مؤسسة الرئاسة، أو الجهد المهم الذى قام به المجلس القومى لحقوق الإنسان بخصوص قضية المختفين قسريا والذى انتهى أخيرا باكتشاف مصير العشرات الذين حاول بعض الإعلاميين وقادة الرأى والمسئولين فى مصر بكل أسف تشويههم والادعاء بتركهم البلاد والانضمام للجماعات الإرهابية ــ وهو ما كشف تحقيق المجلس زيفه. على الرغم من أن مصير كثيرين آخرين لم يتم حسمه ومنهم المختفى الأشهر أشرف شحاتة عضو حزب الدستور والذى لم يتم التعرف على مصيره حتى هذه اللحظة.
بعد ثلاث سنوات لابد أن نعترف بأن جهود المدافعين عن الملف الحقوقى فى مصر تستحق التقدير والثناء، لأنها أولا غيرت بعضا من الوعى العام وأقنعت بعض الناس أن «الحقوق» أمن قومى وأن العدالة هى أحد أهم أقوى الأسلحة فى مواجهة الإرهاب لأن الأخير يجد بيئة خصبة للاستقطاب والتجنيد فى جو مشحون بعدم العدالة والغضب والإحباط والرغبة فى الانتقام!
بعد ثلاث سنوات لابد أن نقر أيضا بأنه على الرغم من حملات الاغتيال المعنوى التى تعرض لها المدافعون عن الملف الحقوقى فإنهم تمكنوا من دفع السلطة لتحمل بعض المسئولية بخصوص هذا الملف وخصوصا ما يتعلق بقضايا الحبس الاحتياطى والاختفاء القسرى.
صحيح أن ما تم إنجازه فى هذا الملف حتى هذه اللحظة غير كاف وربما يكون محبطا، ولعل السمة الأبرز للإحباط هنا هى عدم تغير وعى المسئول وعدم تفهمه أن شرعية النظام وهيبته واستقرار مصر وتحقيق سياداتها وتطوير علاقاتها الخارجية وتمكنها من محاصرة الإرهاب والتطرف ــ مرهونة بتحسين الملف الحقوقى لا العكس، إلا أن الملف فى وضع أفضل نسبيا مقارنة بوضعه قبل ثلاث سنوات سواء من الناحية الكمية أو الكيفية.
***
كيف يمكن استكمال دعم هذا الملف المهم وتحسين أوضاع الحقوق والحريات فى مصر؟
لابد هنا أن نتحدث عن خمسة مؤشرات:
أولا: أن يتم التخلى فورا عن لفظ أو سياسات «التصفية»، وأن تتفهم الجهات الرسمية أن هذا اللفظ وهذه السياسات تدين مصر لا تدافع عنها، فالتصفية تعنى أن السلطات قامت بالتخلص من المطاردين على الرغم من أنه كان بموسوعها أن تقبض عليهم أحياء وتعرضهم للمحاكمة، ومن ثم فلابد أن يكون القتل فى إطار القانون وسيادته لا فى إطار الثأر الشخصى، وبالتالى فلو تم مداهمة وكر لمشتبه بهم وقاموا بتبادل إطلاق النار مع السلطات وتعرضوا للقتل، فهذه ليست «تصفية» ولكنه تبادل لإطلاق النيران أسفر عن مصرع المشتبه بهم، أما لو تم القتل دون اشتباكات للتخلص من المشتبه بهم فهذه تصفيات يحب أن تتوقف فورا لأنها تهدم معانى القانون والدستور والعدالة وتساعد على انتشار العنف والإرهاب.
ثانيا: أن تتم مراجعة فورية لأوضاع السجون المصرية من قبل المجلس القومى لحقوق الإنسان بالتنسيق مع وزارة الداخلية ومؤسسة الرئاسة وبالتعاون مع منظمات حقوقية مستقلة تتأكد من أن المساجين والمحبوسين يلقون معاملة كريمة وقانونية وفقا للوائح السجون المصرية مع تطوير الأخيرة بشكل دورى للتأكد من مواكبتها لتطورات العصر ومعايير حقوق الإنسان الدولية. يجب أيضا أن تكون هناك وحدة للتعامل السريع مع الشكاوى المتعلقة بأوضاع المساجين مؤلفة من ممثلين عن المؤسسات السابقة وخصوصا الشكاوى الطبية أو المتعلقة بالمعاملة أو بالزيارات.. إلخ.
ثالثا: أن تتم مراجعة فورية لأوضاع المساجين والمحبوسين احتياطيا، وخصوصا الفئة الأخيرة بحيث يتم التأكد أولا من أن كل من تخطى الفترة المنصوص عليها قانونا للحبس الاحتياطى قد تم الإفراج عنه ــ أو عنها ــ أو تحويل أوراقه للقضاء، ثم يتم العمل ثانيا على ألا تزيد مدة الحبس الاحتياطى الفعلى على ثلاثة أشهر كحد أقصى سواء عن طريق العمل مع البرلمان لتغيير نصوص القانون، أو عن طريق تغيير السياسات الفعلية بحيث تقتصر المدة الفعلية على هذه الفترة التى تعد كافية بالفعل لاستقصاء أحوال المسجون الاحتياطى، فإما أن هناك دلائل بالفعل وإما أنه لا دلائل كافية وبالتالى لابد من الإفراج عنه (عنها).
رابعا: أن يتم العمل باستمرار وبلا كلل مع وزارة الداخلية للتأكد من تفهم الضباط والأمناء والجنود لمفاهيم حقوق الإنسان والديمقراطية وإنهاء تلك الحساسية غير المبررة تجاه هذه الموضوعات وشرح ارتباطها المباشر بالأمن القومى وبمفاهيم الاستقرار والسيادة وأن يتم ذلك عبر برامج توعوية ولقاءات دورية مع المدنيين المتخصصين فى هذه المجالات وفى إطار الفهم المتبادل للاعتبارات الأمنية والضمانات القانونية.
خامسا: أن يتم العمل بلا كلل أو ملل مع مؤسسة الرئاسة من أجل الحصول على عفو رئاسى دورى لكل من تمت مراجعة ملفه والتأكد من عدم علاقته بالعمليات الإرهابية وأن يتم التركيز فى ذلك على الشباب والنساء، بغض النظر عن الانتماءات الفكرية أو الأيديولوجية، فدعم هذا الملف من شأنه إحداث انفراجات نسبية فى الاحتقان الداخلى، وهو أمر لابد منه فى ظل الظروف الإقليمية والداخلية الراهنة.
***
ما دفعنى للكتابة فى هذا الموضوع مجددا هو قضية الأستاذ مالك عدلى المحامى الحقوقى والقابع فى الحبس الاحتياطى منذ شهر مايو الماضى على خلفية تظاهرات أبريل بخصوص المطالبة بمصرية جريزتى تيران وصنافير. فبغض النظر عن القضية المعقدة والتى ثبت أخيرا أن المطالبين بمصريتها كانوا على حق فى هذه المطالبات وأن محركهم فى هذا هو الخوف على بلدهم لا العكس كما اتهمهم البعض، فإن مالك فى النهاية محبوس احتياطيا ومن حقه الدستورى والقانونى أن يتمتع بحد أدنى من رعاية صحية ونفسية ولا ينبغى أبدا أن يتم شخصنة قضيته أو استهدافه هو أو غيره!
طالعت أخيرا صفحة السيدة أسماء على ــ زوجته ــ والتى تحدثت فى منشوارت مختلفة متاحة للمطالعة على صفحات التواصل الاجتماعى عن معاملة سيئة يلقاها مالك فى محبسه مما أثرت على أوضاعه الصحية والنفسية وهو ما دفعها إلى رفع دعوى للسيد المستشار رئيس محكمة القضاء الإدارى ونائب رئيس مجلس الدولة بخصوص منع مالك من التريض ومطالعة الصحف وأداء الفروض الدينية فى المسجد وتأثيث الزنزانة التى يقضى فيها مدة الحبس الاحتياطى.
شكوى مالك وأسماء يجب أن تلقى اهتمام مؤسسيا يتقصى الحقائق ويعمل على تمكين مالك ومعه كل المحبوسين من الحصول على حقوقهم المقررة دستورا، تحرك المجلس القومى لحقوق الإنسان أخيرا بخصوص القضية خطوة إيجابية للغاية وأتمنى أن يستتبعه تشبيكا مع مؤسسات حقوقية أخرى واستجابة من قبل مؤسسات الدولة وخاصة مؤسستى الرئاسة والداخلية للتأكد من عدم استهداف مالك أو أى مسجون آخر إعمالا للمفاهيم المؤسسية بعيدا عن الثأر الشخصى، كما أتمنى أن تكون كل القضايا الحقوقية محورا لاهتمام قادة الرأى والفكر، وأن تنتهى حساسية المسئولين غير المبررة تجاه فتح مثل هذه القضايا، فمن شأن هذا كله أن يختصر مساحات من الاستقطاب والغضب المجتمعى وهو ما نتمنى تحقيقه فى ظل هذه الظروف الصعبة، فهل نجد استجابة من كل الأطراف؟