جلست في غرفتي أفكر مليا في قراري، فلقد قيل لي ممن هم أكثر مني خبرة أن العمل مع ناجيات من العنف أمر صعب نفسيا وذهنيا. "السهولة" ليست ممتعة على أي حال.. اتخذت قراري- الذي لم أندم عليه- بالعمل في برنامج العنف الجنسي ب"نظرة للدراسات النسوية" واتخذت استعداداتي النفسية عبر قراءة الكثير من الشهادات التي وثقتها "نظرة" وغيرها من المنظمات النسوية حتى لا أصدم بواقع لم أكن ولا زالت لا أعرف عنه الكثير.
كان أول احتكاك لى بروايات عن العنف أو مع بعض الناجيات منه هو كتابة بحث عن البيوت الآمنة (shelters) في مصر. لست أدري إن كان ذلك لنجاح ميكانيزماتي الدفاعية ومراوغاتي النفسية أو لأنني لم أر "الأسوأ" بعد ..إلا أنني فعلاً لم أصدم. لم تصدمني رواية المرأة التي كان يعذبها زوجها في الحمام عارية[1]، أو تلك التي كان يرميها زوجها بالسكاكين ليلاً كنوع من لعب "النيشان"[2]. لم تصدمني رؤية امرأة معنفة وجهها نصف محترق، أو سماع أخرى وهي تروي عن إهانات زوجها لها التي دفعتها لهجر البيت. شعوري بالقهر لم يأت من تلك الروايات المؤلمة، فالقهر يكمن في مكان آخر... فيما بعد العنف.
"احنا مش خرابين بيوت.. الناس بقت بتستسهل الطلاق" أفصحت لي إحدى العاملات ببيت من البيوت الآمنة، التي ترى أن الطلاق أشر من تعرض المرأة للعنف.
تأسست أول بيوت آمنة للنساء في مصر عام 2003 بعد قرارين وزاريين صدروا عام 2000 وبناء عليهم أنشأت وزارة التضامن الاجتماعي أول بيوت آمنة. يوجد حالياً ثمانية بيوت آمنة تابعة لوزارة التضامن وبيت واحد تابع لإحدى منظمات المجتمع المدني. من المفترض أن البيوت الآمنة موجودة خصيصاً للاستجابة لاحتياجات الناجيات وتمكينهن، إلا أن إدارة البيوت الآمنة تتعامل باعتبارها طرف محايد في نزاع بين طرفين، ولا ترى أنها بالضرورة في صف الناجية.
أولا: تعريف "العنف" بالنسبة للكثير من تلك البيوت يقتصر على رؤية آثار مادية للعنف على جسد الناجية. تروي إحدى الناجيات عن تجربتها، حيث قالت لها العاملة الموجودة بالاستقبال، والتي لم تعتبر سوء معاملة زوجها وتهديداته لها كنوع من العنف "انت تجيلي مبطوحة، أو الإسعاف جايباكي..إنما ده مش عنف". ثانيا: تغلق بعض البيوت أبوابها بعد الساعة الثالثة ظ. حسب "مواعيد العمل الرسمية" ولا تقبل "حالات" إلا بعد انعقاد الإدارة وموافقتها، ثالثا: تطلب استيفاء أوراق معقدة قبل قبول الناجية مثل تقارير طبية من مستشفيات حكومية، وهو أمر صعب إذا كانت آثار العنف قد زالت.
أما بعد قبول المرأة بالبيت بتلك الشروط التعسفية، ففي الأغلب لا توجد برامج للتمكين، ولا توجد قواعد لحفظ الخصوصية، ولا يوجد أخصائي نفسي أو اجتماعي موجود بشكل منتظم داخل البيت. أما الأسوأ على الاطلاق هو انه بدلا من أن يعاد تأهيل الناجية نفسياً، ومساندتها قانونياً، وتمكينها اقتصادياً لتتخذ قرارها بالاستقلال أو العودة، في الكثير من الأحيان تمارس تلك البيوت نوع من الوصاية على الناجيات للصلح مع عائلاتهن أو أزواجهن. يتحول البيت الآمن من مكان للاستجابة للناجية، لمكان للصلح بينها وبين أسرتها أو زوجها.
رغم المعاملة الأبوية لم أستطع أن أصب كامل غضبي على العاملات بتلك البيوت اللاتي ينصحن النساء المعنفات بضرورة العودة لأزواجهن بدلا من مساعدتها على مواجهة هذا العنف. فأغلبهن موظفات منتدبات من وزارة التضامن الاجتماعي، تعملن في ظروف سيئة وتتراوح مرتباتهن ما بين 300 إلي 500 جنيه، وقد يتأخر صرف المرتب، وقد ينتدبن في مدن غير مدنهن الأصلية، ولا يقابل ذلك بدلات انتقال مناسبة أو زيادة في المرتب أو الحوافز، ولا التأكد من توفير سبل آمنة لانتقالهن، علماً بأن أغلب البيوت الآمنة موجودة في أماكن نائية يصعب الوصول إليها.
ذلك بالإضافة إلى العبء النفسي الذي يصاحب العمل مع ناجيات من العنف. فبعضهن قد يعتبر العمل في تلك البيوت أصلاً نوع من أنواع التكدير. ففي الواقع، المقائمون والعاملات بالبيوت الآمنة لا يدركون دورها ، ويعاملونها كمأوى فقط.
إن إدارة الخدمات الموجودة للاستجابة لاحتياجات الناجيات بشكل أبوي يدخل النساء اللاتى يلجأن إليها في دوائر جديدة من العنف. ف"النجاة" من العنف ليست نهاية مطاف القهر الأبوي، بل هي في الأغلب بداية لدوائرمن القهر تجد الناجية نفسها بداخلها إذا قررت المواجهة.
[1] - مقابلة شخصية مع الدكتورة ماجدة عدلي.[2] -مقابلة شخصية مع الدكتورة عايدة نور الدين.
سلمى شاش
باحثة ببرنامج المدافعات عن حقوق الإنسان بمؤسسة نظرة