صاحب رمضان في السنوات الأخيرة العديد من الظواهر الجديدة مثل العدد الكبير من المسلسلات والإبداع في أنواع الكنافة وزيادة عدد الإعلانات، بالإضافة لذلك فإن إعلانات المؤسسات الخيرية زادت بشكل ملفت حتى إنها أصبحت تنافس إعلانات المشروعات العقارية. ولعل الزيادة في الإعلانات الخيرية قد أثار حفيظة البعض عن جدوى مثل هذه الإعلانات وعما إذا كان من الأفضل إنفاق أموال الإعلانات على الحالات المرضية والمحتاجين بشكل مباشر. تلك الأسئلة وغيرها تدور في أذهان الناس وأحاديثهم مما قد يجعل من المفيد النظر بصورة أشمل لحملات التبرعات في رمضان من ثلاث زوايا مختلفة.
الزاوية الأولى تتعلق بدور المؤسسات الخيرية.. لعقود طويلة ظل عموم المجتمع خاصة الطبقات المتوسطة والراقية تنظر للعمل الخيرى على أنه من الكماليات، أى أن الدولة متكفلة باحتياجات محدودى الدخل فى الأساس ويأتى دور العمل الخيرى كدور تكميلى يشارك فيه البعض من باب خدمة المجتمع، والبعض الآخر من باب الوجاهة الاجتماعية وربما الدعاية السياسية.. بعيدا عن مدى صحة هذا التصور إلا أن الواقع الحالى يشير إلى أن قرابة ربع السكان فى مصر يقعون رسميا تحت خط الفقر، أى أن دخل ربع السكان أقل من دولارين يوميا، بينما تشير التقديرات غير الرسمية إلى أن مستوى الفقر يقارب ثلث السكان. الزيادة الكبيرة فى معدلات الفقر التى شهدها العقد الذى سبق الثورة والتى تفاقمت فى السنوات الخمس الأخيرة تجعل دور العمل الخيرى فى مصر ليس دورا تكميليا بل رئيسيا لخدمة شريحة منسية فى المجتمع.
ذلك الواقع الحرج قد ازداد فى السنة الأخيرة مع تآكل القوة الشرائية للأفراد بسبب التضخم الكبير وانخفاض الجنيه مما يرجح أن مستوى الفقر الحقيقى قد ازداد. وبينما تزداد معدلات الفقر، فإن الحكومة تقف فى وضع لا تُحسد عليه؛ حيث إن مخصصات التعليم والصحة والضمان الاجتماعى تبقى محدودة. والأهم من ذلك أن الجزء الأكبر من تلك المخصصات يتم صرفه على الرواتب مقارنة بالخدمات المباشرة كما هو الحال فى ميزانية الصحة. ذلك الوضع ليس جديدا، لكن الجديد فى الأمر أنه مع تردى الوضع الاقتصادى والاجتماعى مؤخرا بينما عجز الموازنة فى مستويات تاريخية، فإن الحكومة تقف عاجزة عن تقديم المزيد مما يجعل دور المؤسسات الخيرية دورا مهما وليس تكميليا.
***
أما الزاوية الثانية فتتعلق بفكرة الإعلانات التى تطلقها المؤسسات الخيرية خاصة فى رمضان والتى قد يراها البعض نوعا من إهدار الأموال فى غير مصارفها الصحيحة. من المهم إدراك أن رمضان هو موسم التبرعات، حيث إن المؤسسات الخيرية فى المتوسط تقوم بجمع ما يزيد على ٨٠٪ من التبرعات السنوية خلال شهر رمضان فقط بينما لا تجمع خلال باقى العام سوى ٢٠٪ فقط طبقا لإحصاءات العام الماضى. ولا يختلف الوضع كثيرا فى حالة الجمعيات الكبرى والتى تجمع ٧٥٪ من تبرعاتها خلال شهر رمضان. ولعل السبب فى تركز التبرعات فى رمضان يرجع لرغبة الكثيرين فى إخراج زكاة أموالهم وصدقاتهم خلال شهر رمضان. إذا كان رمضان هو موسم التبرعات، فمن المنطقى أن تسعى المؤسسات لعرض مشروعاتها بكثافة خلال هذا الموسم.
قد يرى البعض أن تكلفة الإعلانات باهظة، لكن قد تتغير هذه الصورة إذا علمنا أن إجمالى ما تم جمعه من تبرعات خلال رمضان الماضى قد تخطى ٣٠ مليار جنيه وفقا للأرقام الرسمية، بينما الواقع أعلى من ذلك نظرا لقيام الكثيرين بجمع التبرعات بشكل شخصى. تلك الأرقام كبيرة جدا مقارنة بحجم الإنفاق الاجتماعى فى موازنة الحكومة. ومن المتعارف عليه قيام المؤسسات الخيرية بتجنيب ما يقارب ١٠٪ من التبرعات لتغطية المصروفات الإدارية والدعاية. فلو اعتبرنا أن المؤسسات الخيرية تقوم بصرف نصف هذه الأموال على الإعلانات، فإن هذا يعنى ميزانية دعاية تقارب ١٫٥ مليار جنيه خلال رمضان فقط وهو ما يمثل نصف ما تُحصله أكبر ١٠ قنوات فضائية من إعلانات خلال شهر رمضان الحالى. وذلك يشير إلى أن المؤسسات الخيرية فى الواقع تصرف أقل من هذا الرقم، أى أنها ضمن المعدلات المتعارف عليها عالميا، حيث إن إعلاناتها لا تزيد على نصف الإعلانات، خاصة مع الأخذ فى الاعتبار أن تكلفة إنتاج الإعلانات الخيرية أقل من إعلانات الشركات نتيجة تبرع الكثير من الفنانين والشخصيات العامة بأجرهم.
أما الزاوية الثالثة فتتعلق بالزيادة المضطردة فى إعلانات المؤسسات الخيرية من سنة لأخرى. ولعل السبب الرئيسى لذلك يكمن فى الأثر الإيجابى للإعلانات على حجم التبرعات المجمعة مما دفع المؤسسات الخيرية فى التوسع فى الإنفاق على الإعلانات. فمن الجدير بالذكر أن التبرعات من خلال رسائل الموبايل وصلت لقرابة ٦٠٠ ألف جنيه فى ٢٠١٢ وهذا الرقم تضاعف ست مرات ليصل لقرابة ٤ ملايين جنيه فى ٢٠١٣ ثم تضاعف ثلاث مرات لما يزيد على ١١ مليون جنيه فى ٢٠١٤. تلك الزيادة المضطردة فى حجم التبرعات تشير إلى الأثر الكبير للدعاية وتدفع المؤسسات للتوسع فيها بل وتجعل المؤسسات الخيرية تنظر للدعاية على أنها وسيلة استثمار لبناء اسم المؤسسة وقاعدة للمتبرعين، وهو ما تحتاج له كل المؤسسات الخيرية حاليا سواءً الكبيرة منها أو الصغيرة فى ظل زيادة الضغط عليها الناتج من تردى الوضع الاقتصادى والاجتماعى. بالإضافة لذلك، تواجه كل مؤسسة على حدة منافسة مع المؤسسات الأخرى مما يجعل المؤسسات تتبارى فى عرض إنجازاتها بُغية جمع المزيد من التبرعات فى وقت يتآكل فيه الدخل الحقيقى للطبقة الوسطى فى المجتمع بسبب التضخم.
***
قد ينزعج البعض من إعلانات المؤسسات الخيرية التى تُعرض فى رمضان لكن الواقع الاقتصادى والاجتماعى الذى تواجهه شريحة منسية فى المجتمع قد يكون أكثر قسوة. وهذا الواقع يُلقى بتحديات كبيرة على المؤسسات الخيرية التى تلعب دورا أساسيا فى تقديم الخدمات لتلك الشريحة. قد يظن المتابع للوهلة الأولى أن تلك الإعلانات باهظة التكلفة لكن بالنظر لحجم التبرعات تصبح نسبيا مقبولة، ومن المتوقع أن تزيد حملات الدعاية فى السنوات القادمة مع الضغط على المؤسسات الخيرية والتنافس فيما بينها.
المقال منشور بصحيفة الشروق في عددها الصادر اليوم السبت 25 يونيو 2016