قبل أربعة أيام من تظاهرات (٣٠) يونيو بدا البلد على أعصابه ينتظر ما يقوله الرجل الذي آلت إليه مقاليد الرئاسة في قاعة المؤتمرات الكبرى.
في هذا المساء من عام (٢٠١٣) انتهى كل شيء وهو يخطب بعصبية بالغة بين حشد من أنصاره يدعونه إلى الحسم مع خصومه السياسيين والتحريض على أية قيمة ديمقراطية.
كانت الخطيئة السياسية الأولى إنكار أن هناك أزمة كبرى، وإنكار الأزمات من أسباب سقوط النظم وتقويض الرئاسات.
تصورت جماعة الإخوان المسلمين أن ما لديها من قوة في التنظيم ووفرة في الموارد كاف للحسم وأعدت بالفعل قوائم اعتقالات لخصومها بانتظار فشل (٣٠) يونيو.
أفرط «محمد مرسى» في التهديد والوعيد وتحرش بقضاة وإعلاميين وسياسيين.
كان ذلك إغلاقا عنيفا لأية نافذة سياسية محتملة.
فى جو الغضب العام تبدت ثلاثة مطالب.. أولها: تغيير النائب العام بآخر يختاره المجلس الأعلى للقضاء.. وثانيها: إقالة الحكومة والتوافق على شخصية مدنية تترأسها.. وثالثها: إجراء انتخابات رئاسية مبكرة.
التاريخ لا يكتب بأثر رجعى ولا بالنوايا الحسنة غير أن أي درجة من الاستجابة للمطالب الثلاثة كانت سوف تضع الأزمة التي توشك أن تنفجر على مسار آخر.
الحقيقة أن القرار الأخير لم يكن لـ«مرسى» في «الاتحادية» بقدر ما كان لمكتب الإرشاد بـ "المقطم".
في أول يونيو زارت ثلاث شخصيات عربية مكتب الإرشاد في محاولة لإقناع المرشد «محمد بديع» بـ «مخرج سياسي» للأزمة تستجيب على نحو ما لمطالب المعارضة المدنية.
الثلاثة هم: الشيخ «راشد الغنوشى» زعيم «حركة النهضة» في تونس، والأستاذ «منير شفيق» المفكر الفلسطيني المعروف، والدكتور «خير الدين حسيب» مؤسس المؤتمر القومي العربي.
أخفقت المهمة تماما، ولم يبد أن الجماعة مستعدة لأية تسويات سياسية معتقدة أن عضلاتها تردع وأن بوسعها وحدها «التكويش» على السلطة.
كانت تلك خطيئة سياسية ثانية أفضت إلى طردها من المسرح كله.
لم تكن الجماعة مهيأة للحكم وافتقدت الحد الأدنى من كفاءة الأداء العام وتعاملت مع السلطة كأنها «جائزة» أتت إليها متأخرة وأنه حان الوقت لأعضائها أن يتولوا كل المناصب العامة من أعلاها إلى أدناها.
فى تجربة السلطة توارت «الجماعة المظلومة» وبرزت الجماعة التي تظلم الآخرين.
لم تخلص لأية وعود قطعتها على نفسها ولم تبق على أي تحالف مع أية قوى وثقت فيها.
نجحت بصورة هائلة في اكتساب العدوات وبدأت كل الأنهار تتدفق إلى محيط غضب واحد وجد عنوانه في (٣٠) يونيو.
كانت الخطيئة السياسية الثالثة أن الجماعة وضعت نفسها في مواجهة المجتمع.
هونت من حجم التظاهرات المحتملة وتصورت أن بوسعها أن تحشد أكثر منها.
لم تدرك أن مشكلتها الرئيسية مع مجتمعها، خسرت بصورة شبه كاملة الطبقة الوسطى المدنية وجماعات المثقفين والفئات الأكثر فقرا الذين طالعوا لأول مرة ما هو خاف في حقيقتها.
بدت فئ العراء السياسي لا يقف بجوارها سوى بعض التنظيمات الإسلامية، وبعضها إرهابي بالمعنى الحرفي.
خلطت بين الشرعية والشريعة وتلاعبت بأهداف الثورة وفق حسابات اللحظة.
إن أي قراءة متأنية لمواضع التظاهرات الاحتجاجية ضد حكم الإخوان المسلمين، تكتشف ببساطة أن القوة الضاربة في مجتمعها قد حسمت أمرها وأن السقوط مرجح بأثر رفع أي غطاء مدني عنها.
ذلك ما حدث على العكس من توقعات الجماعة لحجم تظاهرات (٣٠) يونيو وقوة أثرها.
كانت تلك خطيئة سياسية رابعة في معاندة الحقائق.
لم تكن مستعدة للاعتراف بفشلها في إدارة الدولة ولا كانت متقبلة لأية شراكة سياسية إلا أن تكون ديكورا.
بدت عاجزة تماما عن أن ترى كراهيتها في الشارع مجسدة في عشرات الملايين ولا أن تقر بشرعية الغضب عليها.
مانعت في قراءة المشاهد التاريخية ووصفتها بأنها "فوتوشوب".
عندما تغالط الحقائق التي أمامك فإنك على وشك أن تطرد من التاريخ.
بالقرب من لحظة الصدام راهنت على الوعود الأمريكية بأكثر من أي حسابات داخلية.
كانت تلك خطيئة سياسية خامسة، فقد عجزت عن أن تطل على الحقيقة التي يعرفها كل الناس باستثناء قياداتها.
تولد لديهم اعتقادا راسخا أن الجيش لن يتدخل في صراعات السلطة أيا كانت أحجام تظاهرات (٣٠) يونيو أو احتمالات الانجراف إلى احتراب أهلي.
الإدارة الأمريكية قطعت تعهدات بهذا المعنى لرجل الجماعة القوى «خيرت الشاطر» نقلتها السفيرة "آن باترسون".
تدخل الجيش لم يكن قرار رجل واحد إنما هو قرار مؤسسة وصفها «مرسى» في خطابه العلني الأخير يوم (٢٦) يونيو بـ «رجال من ذهب».
حتى لا ننسى فإن قطاعا كاسحا من الرأي العام طالب علنا بتدخل الجيش قبل أن يحدث وهناك من اتهم قيادته بالتخاذل عن التقدم لإنقاذ البلد من مصير مأساوي.
استنادا إلى الوعود الأمريكية تشددت الجماعة وتناثرت التهديدات في خطاب «مرسى» الكارثي.
وكانت الخطيئة السياسية السادسة أن الجماعة لم تستوعب إطاحة رجلها في قصر الاتحادية يوم (٣) يوليو، لا قرأت الحقائق الجديدة ولا حاولت مصالحة شعبها.
أفلتت فرصتها الأخيرة فقد دعا «محمد سعد الكتاتنى» رئيس المجلس النيابي السابق ورئيس حزبها «الحرية والعدالة» إلى الاجتماع الذي سبق مباشرة الإعلان عن خريطة المستقبل.
غير أنها رفضت مشاركة يمكن أن تفضي وفق تعقيدات لا مثيل لها إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة دون حل مجلس الشورى الذي تسيطر عليه أو تعليق العمل بالدستور الذي صاغته وحدها.
المعنى أنه كانت أمامها فرصة ما لا تعوض في إعادة ترتيب أوراقها لكنها لم تكن مهيأة لأي تصرف سياسي يوقف تدهورها.
لخصت ما جرى في كلمة واحدة «الانقلاب» واعتقدت أن الضغوط الغربية كفيلة بإعادة «مرسى» للرئاسة من جديد.
بانخراطها في العنف قوضت أية مبادرة سياسية حتى بدت فكرة المصالحة نفسها سيئة السمعة.
كان الانخراط في العنف والتحريض عليه والترحيب بجرائمه هو الخطيئة السابعة والقاتلة.