تحليلات وآراء

لا مبالغة كبيرة في قناعة بعض المفكرين والقادة السياسيين من أن الربيع السياسي عائد ليدق أبواب مجتمعات عديدة، منها مجتمعات سبق لها أن فتحت له أبوابها تعرض بعضها لأهوال شتى حين جرت فيها محاولات شرسة لوأد هذا الربيع. فشلت محاولات الوأد في عدد من المجتمعات وبخاصة في تلك التي استنفرت القوى غير الملموسة لتلعب دور التحدي والتصدي. وفي مجتمعات أخرى، تسببت محاولات الوأد في خراب ودمار شاملين لكل الأطراف، لم ينج ثائر أو عدو للثورة.

يعود الربيع هذه المرة ليدق أبوابا فى مجتمعات نضجت ظروفها واستعدت لاستقباله، أكثرها مجتمعات تدهورت فيها أحوال الأمن وانهارت مؤسسات الدولة أو كادت وتضخم الفساد واتخذ صورا غير مألوفة، وفى بعضها ساد العنف واستطاعت عصابات الجريمة اختراق أجهزة الشرطة والجيش، وبات مؤكدا فيها اليأس من إمكان تحقيق انتقال منظم وسلمى من حال الفوضى والعنف والظلم إلى حال يضمن كرامة الإنسان ويحقق العدالة الاجتماعية.

أكاد أراه وأسمعه وهو يدق أبواب العراق مقتربا من تركيا ومتأهبا ليعاود الكرة فى اليمن، أراه غير بعيد عن حدود الجزائر والمغرب، وأراه فى صور مترددة وربما أقل وضوحا يعبر الحدود فى دولة أو أكثر من دول شرق ووسط أوروبا. نراه، أنا وغيرى، يتقدم فى الصين متبنيا شعارات مختلفة وأساليب متباينة. ولكننا نراه بكل الوضوح الممكن يدق أبواب دول أمريكا الوسطى وبخاصة جواتيمالا وهندوراس والسلفادور.

***

جاءت فترة فى أمريكا الوسطى كان من الممكن أن يسبقها مرحلة نمو سياسى واجتماعى ينقل مجتمعات هذه الدول إلى الاستقرار والرخاء. فى تلك الفترة بدت شعوب أمريكا الوسطى جاهزة للتخلص من هيمنة الشركات الأمريكية وعملائها من السياسيين المحللين وإقامة ديمقراطية معقولة وأنظمة حكم تضمن حدا مناسبا من العدالة والسلام الاجتماعى. كانت الأجواء وقتها تشبه إلى حد ما الأجواء التى صاحبت انطلاق ثورات الربيع العربى. حدث فى الحالتين ان تحركت قوى دولية وإقليمية وقوى داخلية وتحالفت لوأد الثورة وهى لاتزال فى شهورها وسنواتها المبكرة. هناك فى أمريكا الوسطى تعرضت الدول إلى ما تعرضت له بعض مجتمعات الربيع العربى بسبب إجراءات ومحاولات وأد الثورة، هنا وهناك حلت الفوضى وهيمن العنف وتدافع الكل لقتل الكل. تهاوت مؤسسات وخرج من رحمها قبل انفراطها عصابات جريمة يقودها فى بعض الحالات رجال من داخل مؤسسات الجيش والأمن. انتشرت هذه العصابات لتنشر خلال انتشارها الارتباك. اخضعت الشعوب للابتزاز فهاجر من هاجر واستسلم لقدره من استسلم.

وسط هذه الفوضى التى خلقتها الأعمال المعادية للثورات نشبت فى بعض دول أمريكا الوسطى حروب أهلية. بعض هذه الحروب استمر عقودا أعقبتها هيمنة عصابات الجريمة وتخللتها هجرات واسعة فى اتجاه المكسيك وبيليز وكوستاريكا فى الطريق إلى الولايات المتحدة، الدولة الأعظم التى ساهمت بالقسط الأوفر من تكاليف حروب وأد الثورات منذ لحظة انطلاقها. نشبت فى السلفادور حرب عنقودية دارت بين الحكومات العسكرية المتعاقبة وجماعات الثورة وامتدت من عام ١٩٧٩ إلى عام ١٩٩٢، سقط خلالها خمسة وسبعون ألف قتيل. وفى جواتيمالا نشبت حرب أهلية أخرى استمرت من عام ١٩٦٠ إلى عام ١٩٩٦ سقط خلالها أكثر من مائتى ألف قتيل. الاستثناء فى هذه الثلاثية كان من نصيب هندوراس التى لم تنشب فيها حرب أهلية، فقد استخدمتها اطراف فى حروب أخرى مسرحا لها. استخدمتها مثلا أطراف الحرب الأهلية الدائرة فى نيكاراجوا. قام الأمريكيون بتخصيص غابات هندوراس لتدريب قوات الكونترا المكلفة والممولة أمريكيا للقضاء على الثورة التى كانت قد انطلقت فعلا تحت اسم الساندينيستا ووصلت إلى مقاعد الحكم، وجرى اسقاطها ثم عادت بالانتخابات الحرة.

***

يغيب عنا أحيانا ان الولايات المتحدة تعانى بشكل ما من تداعيات تدهور الاستقرار وتصاعد الفوضى فى دول أمريكا الوسطى، تماما كما تعانى الآن بعض دول أوروبا من تداعيات محاولات وأد ثورات الربيع العربى فى الشرق الأوسط. إذ دخل أمريكا خلال العامين الأخيرين ما يزيد على مائة ألف طفل هاربين من سوء الأحوال المعيشية وعمليات الابتزاز واختطاف الأطفال التى تمارسها عصابات الجريمة فى دول أمريكا الوسطى، ويعيش فى أمريكا حاليا ما يقارب ثلاثة ملايين مهاجر من القارة الجنوبية دخلوا عن طريق المكسيك.

تكاد تجمع الدراسات المتخصصة على أن أحد أهم أسباب الهجرة من دول أمريكا الوسطى إلى جانب الفقر المتفاقم هو الفشل فى إصلاح أجهزة الشرطة والجيش المعبأة والمدربة لغرض واحد هو مطاردة الثوريين والقضاء أولا بأول على المعارضة السياسية السلمية. جرت محاولات شكلية وغير مهمة لإصلاح هذه الأجهزة قبل ان تكتشف الأمم المتحدة والمنظمات الدولية التى حاولت تنفيذ برامج إصلاحية هناك، ان جميع أجهزة الأمن جرى اختراقها من جانب عصابات الجريمة المنظمة خلال مرحلة وأد الثورات وخصوصا فى سنوات الحروب الأهلية، حتى أنه بات من الصعب فى بعض دول أمريكا الوسطى وربما المكسيك أيضا الفصل بين قوات الأمن المحلية وفرق الموت التى تشكلها العصابات. فى مثل هذه الأحوال يصعب تصور إمكان استعادة هيبة الدولة وإعادة الاستقرار إلى تلك المجتمعات بدون ثورة سياسية واجتماعية شاملة.

***

يرتكب المتخصصون الأمريكيون فى شئون أمريكا الجنوبية خطأ جسيما حين يركزون اهتمامهم على أمريكا الوسطى ومستقبل الاستقرار فيها على حساب الاهتمام بدول أخرى فى جنوب القارة. أفهم أولوية الاهتمام بأمريكا الوسطى لأسباب تتعلق بالهجرة الكاسحة التى صارت تؤثر فعليا فى اتجاهات الفكر السياسى الأمريكى، كما يظهر بوضوح فى تفاصيل الحملة الانتخابية للرئاسة وفى التصعيد المتعمد من جانب جهات عديدة للحملات العنصرية ضد المهاجرين والمنحدرين من أصول غير بيضاء، لكنى أفهم أيضا أن تراجع الاهتمام الأمريكى بدول ومجتمعات فى أمريكا الجنوبية صار يعقد المشكلات فى العلاقات بين الولايات المتحدة ومختلف دول أمريكا اللاتينية مثلما هو حادث فى العلاقات الأمريكية الأوروبية، وحادث أيضا بوضوح شديد فى العلاقات بين أمريكا ودول عربية عديدة، وأحد أهم أسبابها تراجع اهتمام أمريكا بأوروبا والشرق الأوسط لحساب اهتمام أمريكى أكبر بالشرق الآسيوى.

***

يبدو لي، من بعيد، أن عودة النيو ليبرالية إلى توحشها السابق فى أمريكا الجنوبية بدعم من قوى عديدة فى الولايات المتحدة، صار يهدد بإعادة الساعة إلى الوراء فى عدد من دول القارة. بمعنى آخر، هناك فى القارة الجنوبية من يعتقد ان قوى اجتماعية معينة عادت تزحف مخترقة صفوف قوى الأمن الداخلى والجيش فى بعض دول القارة، فى سعى لإعادة تشكيل التحالف المقيت بين قوى المال وقوى الأمن، وهو التحالف الذى هيمن طويلا على الحكم فى القارة، وبسببه انطلقت الحركات الإصلاحية التى هى الآن فى مهب ريح عاتية قد تودى بالإنجازات الكبرى التى تحققت فى مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية فى القارة اللاتينية.

***

نسائم الربيع عادت تدق أبواب مجتمعات عديدة فى شتى أنحاء العالم. أكاد ألمح استعدادات لاستقبالها فى دول أمريكا الوسطى فى أقصى شمال أمريكا الجنوبية وفى البرازيل والأرجنتين فى أقصى جنوب القارة وألمح بوادر قلق بشأن ما يمكن أن يحمله هذا الربيع لدول أوروبية.

تعليقات الفيسبوك

التصميم والتطوير بواسطة WhaleSys